فالتحقيق في المقام ، أنّه لا شكّ ولا خلاف ظاهرا في مدخلية الترجيع المطرب في حقيقة الغناء ودخوله فيها ، كما سمعت ، بل لا ينفكّ حسن الصوت عنهما غالبا ، كما ذكره في الكفاية ، وكذا الظاهر ، بل لا ينبغي الشك فيه ، أنّ كلّ ترجيع حسن ليس غناء ، كما أشرنا إليه أيضا ، بل هو كما نبّه عليه بعض المحقّقين : كيفية خاصّة من التراجيع والألحان ، مثيرة لسرور ووجد وانشراح أو حزن وانقباض ، وهي غالبا متداولة بين أهل الطرب في العصيان ، يستعملونها في الملاهي والعيدان.
ثم هذا الأثر الحاصل منها في القلوب يختلف غالبا ، صلاحا وفسادا ، خيرا وشرا ، باختلاف الكلمات والنيّات والمقامات ، فإذا كان متعلّقها من غير الفضائل سيما من الأباطيل ، ومثل ذكر القدود (١) والخدود ووصف النساء يهيّج القوى الحيوانية ، ويثير وجدا شهوانيا ، ويفسد القلب ، وينبت النفاق ، وينجذب النفوس إلى الميل إلى اللهو والعشرة (٢) ، ويضمر خواطر السوء ، سيما بالنسبة إلى البواطن المملوّة بالهوى ، من قبيل حالة السكر الذي يفعله المسكر ، ويشتدّ تلك الحالة إذا كان مقترنا بمحرّم خارجيّ من الخمور والفجور وضرب الدفّ والقصب والمزامير ، بل لاختلاف أوزان الكلام ، وبحور العروض من قبيل التصانيف المتداولة بين أهل الطرب ، والأوزان التي يستعملها الناس في المعازف مدخل تامّ فيها أيضا.
وإن كان متعلقه من الفضائل ، كذكر توحيده سبحانه ، ونعوت جلاله وجماله ، وتذكير قربه وحبّه وأنسه ، ووصف الجنة والنار والكلمات المشوقة إلى دار القرار ، وتوصيف نعم الملك الجبار ، والترغيب بالخيرات والعبادات ، يثير غالبا ما لم يبلغ هذا الترجيع حدّ الإفراط بحيث يستهلك فيه المقروّ حزنا دينيا وشوقا إلهيا وفرحا
__________________
(١) القدود بضمّ القاف جمع القدّ بالفتح ، أي قامة الرجل.
(٢) العثرة ( خ ).