وذكرت صلتان فيهما دلالة على الانفراد بالقدرة العظيمة وعلى النعمة عليهم ، ولذلك أقحم لفظ (لَكُمُ) في الموضعين ولم يقل : الذي جعل الأرض مهادا وجعل فيها سبلا كما في قوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً) [النبأ : ٦ ، ٧] لأن ذلك مقام الاستدلال على منكري البعث ، فسيق لهم الاستدلال بإنشاء المخلوقات العظيمة التي لا تعدّ إعادة خلق الإنسان بالنسبة إليها شيئا عجيبا.
ولم يكرر اسم الموصول في قوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) لأن الصلتين تجتمعان في الجامع الخيالي إذ كلتاهما من أحوال الأرض فجعلهما كجعل واحد. وضمائر الخطاب الأحد عشر الواقعة في الآيات الأربع من قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) مهادا إلى قوله (مُقْرِنِينَ) [الزخرف : ١٠ ـ ١٣] ليست من قبيل الالتفات بل هي جارية على مقتضى الظاهر.
والمهاد : اسم لشيء يمهد ، أي يوطأ ويسهل لما يحلّ فيه ، وتقدم في قوله : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) في سورة الأعراف [٤١]. ووجه الامتنان أنه جعل ظاهر الأرض منبسطا وذلك الانبساط لنفع البشر الساكنين عليها. وهذا لا ينافي أن جسم الأرض كروي كما هو ظاهر لأن كرويتها ليست منفعة للنّاس. وقرأ عاصم (مَهْداً) بدون ألف بعد الهاء وهو مراد به المهاد.
والسبل : جمع سبيل ، وهو الطريق ، ويطلق السبيل على وسيلة الشيء كقوله (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٤٤]. ويصح إرادة المعنيين هنا لأن في الأرض طرقا يمكن سلوكها ، وهي السهول وسفوح الجبال وشعابها ، أي لم يجعل الأرض كلها جبالا فيعسر على الماشين سلوكها ، بل جعل فيها سبلا سهلة وجعل جبالا لحكمة أخرى ولأن الأرض صالحة لاتخاذ طرق مطروقة سابلة.
ومعنى جعل الله تلك الطرق بهذا المعنى : أنه جعل للنّاس معرفة السير في الأرض واتباع بعضهم آثار بعض حتى تتعبد الطرق لهم وتتسهل ويعلم السائر ، أي تلك السبل يوصله إلى مقصده.
وفي تيسير وسائل السير في الأرض لطف عظيم لأن به تيسير التجمع والتعارف واجتلاب المنافع والاستعانة على دفع الغوائل والأضرار والسير في الأرض قريبا أو بعيدا من أكبر مظاهر المدنيّة الإنسانية ، ولأن الله جعل في الأرض معايش النّاس من النبات والثمر وورق الشجر والكمأة والفقع وهي وسائل العيش فهي سبل مجازية. وتقدم نظير