ووجّه الخطاب إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وأضيف لفظ (الرب) إلى ضميره إيماء إلى أن الله مؤيده تأنيسا له ، لأن قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] قصدوا منه الاستخفاف به ، فرفع الله شأنه بإبلاغ الإنكار عليهم بالإقبال عليه بالخطاب وبإظهار أن الله ربّه ، أي متولي أمره وتدبيره.
وجملة (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) تعليل للإنكار والنفي المستفاد منه ، واستدلال عليه ، أي لما قسمنا بين النّاس معيشتهم فكانوا مسيّرين في أمورهم على نحو ما هيّأنا لهم من نظام الحياة وكان تدبير ذلك لله تعالى ببالغ حكمته ، فجعل منهم أقوياء وضعفاء ، وأغنياء ومحاويج ، فسخر بعضهم لبعض في أشغالهم على حساب دواعي حاجة الحياة ، ورفع بذلك بعضهم فوق بعض ، وجعل بعضهم محتاجا إلى بعض ومسخّرا به. فإذا كانوا بهذه المثابة في تدبير المعيشة الدّنيا ، فكذلك الحال في إقامة بعضهم دون بعض للتبليغ فإن ذلك أعظم شئون البشر. فهذا وجه الاستدلال.
والسخريّ بضم السين وبكسرها وهما لغتان ولم يقرأ في القراءات المشهورة إلا بضم السين. وقرأ ابن محيص في الشاذّ بكسر السين : اسم للشيء المسخر ، أي المجبور على عمل بدون اختياره ، واسم لمن يسخر به ، أي يستهزأ به كما في «مفردات» الراغب و «الأساس» و «القاموس». وقد فسر هنا بالمعنيين كما قال القرطبي. وقال ابن عطية : هما لغتان في معنى التسخير ولا تدخّل لمعنى الهزء في هذه الآية. ولم يقل ذلك غيره وكلام الراغب محتمل. واقتصر الطبري على معنى التسخير. فالوجه في ذلك أن المعنيين معتبران في هذه الآية. وإيثار لفظ (سُخْرِيًّا) في الآية دون غيره لتحمّله للمعنيين وهو اختيار من وجوه الإعجاز فيجوز أن يكون المعنى ليتعمل بعضهم بعضا في شئون حياتهم فإن الإنسان مدني ، أي محتاج إلى إعانة بعضه بعضا ، وعليه فسّر الزمخشري وابن عطية وقاله السّدي وقتادة والضحاك وابن زيد ، فلام (لِيَتَّخِذَ) لام التعليل تعليلا لفعل (قَسَمْنا) ، أي قسمنا بينهم معيشتهم ، أي أسباب معيشتهم ليستعين بعضهم ببعض فيتعارفوا ويتجمعوا لأجل حاجة بعضهم إلى بعض فتتكون من ذلك القبائل والمدن.
وعلى هذا يكون قوله : (بَعْضُهُمْ بَعْضاً) عاما في كل بعض من النّاس إذ ما من أحد إلا وهو مستعمل لغيره وهو مستعمل لغير آخر.
ويجوز أن تكون اسما من السّخرية وهي الاستهزاء. وحكاه القرطبي ولم يعيّن قائله وبذلك تكون اللام للعاقبة مثل (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨]