يدينون بالشرك إذ هو قد بعث لبني إسرائيل وكلهم موحّدون فلما اختلف أتباعه بينهم وكذبت به فرق وصدقه فريق ثم لم يتبعوا ما أمرهم به لم يلبثوا أن حدثت فيهم نحلة الإشراك.
وجملة (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) مبيّنة لجملة (جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) وليست جوابا لشرط (لَمَّا) الذي جعل التفريع في قوله : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) [مريم : ٣٧] دليلا عليه. وفي إيقاع جملة (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) بيانا لجملة (جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) إيماء إلى أنه بادأهم بهذا القول ، لأن شأن أهل الضلالة أن يسرعوا إلى غاياتها ولو كانت مبادئ الدعوة تنافي عقائدهم ، أي لم يدعهم عيسى إلى أكثر من اتباع الحكمة وبيان المختلف فيه ولم يدعهم إلى ما ينافي أصول شريعة التوراة ومع ذلك لم يخل حاله من صدود مريع عنه وتكذيب.
وابتداؤه بإعلامهم أنه جاءهم بالحكمة والبيان وهو إجمال حال رسالته ترغيب لهم في وعي ما سيلقيه إليهم من تفاصيل الدعوة المفرع بعضها على هذه المقدمة بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ).
والحكمة هي معرفة ما يؤدي إلى الحسن ويكفّ عن القبيح وهي هنا النبوءة ، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) في سورة البقرة [٢٦٩]. وقد جاء عيسى بتعليمهم حقائق من الأخلاق الفاضلة والمواعظ.
وقوله : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ) ، عطف على (بِالْحِكْمَةِ) لأن كليهما متعلّق بفعل (جِئْتُكُمْ). واللام للتعليل. والتبيين : تجلية المعاني الخفيّة لغموض أو سوء تأويل ، والمراد ما بيّنه عيسى في الإنجيل وغيره مما اختلفت فيه أفهام اليهود من الأحكام المتعلقة بفهم التوراة أو بتعيين الأحكام للحوادث الطارئة. ولم يذكر في هذه الآية قوله المحكي في آية سورة آل عمران [٥٠] (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) لأن ذلك قد قاله في مقام آخر.
والمقصود حكاية ما قاله لهم مما ليس شأنه أن يثير عليه قومه بالتكذيب فهم كذبوه في وقت لم يذكر لهم فيه أنه جاء بنسخ بعض الأحكام من التوراة ، أي كذبوه في حال ظهور آيات صدقه بالمعجزات وفي حال انتفاء ما من شأنه أن يثير عليه شكا. وإنما قال : (بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) ، إمّا لأن الله أعلمه بأن المصلحة لم تتعلق ببيان كل ما اختلفوا فيه بل يقتصر على البعض ثم يكمّل بيان الباقي على لسان رسول يأتي من بعده