وقدم المتصفون بالإيمان لشرفه وجعل خلق الناس والدواب آية للموصوفين بالإيقان لأن دلالة الخلق كائنة في نفس الإنسان وما يحيط به من الدواب ، وجعل اختلاف الليل والنهار واختلاف حوادث الجو آية للذين اتصفوا بالعقل لأن دلالتها على الوحدانية بواسطة لوازم مترتبة بإدراك العقل. وقد أومأ ذكر هذه الصفات إلى أن الذين لم يهتدوا بهذه الآيات ليسوا من أصحاب هذه الصفات ولذلك أعقبه بقوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) [الجاثية : ٦] استفهاما إنكاريا بمعنى النفي.
واعلم أن هذا الكلام وإن كان موجها إلى قوم لا ينكرون وجود الإله وإنما يزعمون له شركاء ، وكان مقصودا منه ابتداء إثبات الوحدانية ، فهو أيضا صالح لإقامة الحجة على المعطّلين الذين ينفون وجود الصانع المختار وفي العرب فريق منهم. فإن أحوال السماوات كلها متغيرة دالة على تغير ما اتصفت بها ، والتغير دليل الحدوث وهو الحاجة إلى الفاعل المختار الذي يوجدها بعد العدم ثم يعدمها.
وقرأ الجمهور قوله : (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وقوله : (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) برفع (آياتٌ) فيهما على أنهما مبتدءان وخبراهما المجروران. وتقدّر (في) محذوفة في قوله (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) لدلالة أختها عليها التي في قوله : (وَفِي خَلْقِكُمْ). والعطف في كلتا الجملتين عطف جملة لا عطف مفرد.
وقرأها حمزة والكسائي وخلف لآيات في الموضعين بكسرة نائبة عن الفتحة فآيات الأول عطف على اسم (إِنَ) و (فِي خَلْقِكُمْ) عطف على خبر (إِنَ) فهو عطف على معمولي عامل واحد ولا إشكال في جوازه وأما (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فكذلك ، إلا أنه عطف على معمولي عاملين مختلفين ، أي ليسا مترادفين هما (إنّ) و (في) على اعتبار أن الواو عاطفة (آياتٌ) وليست عاطفة جملة (فِي خَلْقِكُمْ) الآية ، وهو جائز عند أكثر نحاة الكوفة وممنوع عند أكثر نحاة البصرة ، ولذلك تأول سيبويه هذه القراءة بتقدير (في) عند قوله : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) لدلالة أختها عليها وتبقى الواو عاطفة (آياتٌ) على اسم (إنّ) فلا يكون من العطف على معمولي عاملين.
والحق ما ذهب إليه جمهور الكوفيين وهو كثير كثرة تنبو عن التأويل. وجعل ابن الحاجب في «أماليه» قراءة الجمهور برفع (آياتٌ) في الموضعين أيضا من العطف على معمولي عاملين لأن الرفع يحتاج إلى عامل كما أن النصب يحتاج إلى عامل قال : وأكثر الناس يفرض الإشكال في قراءة النصب لكون العامل لفظيّا وهما سواء. وقرأ يعقوب