طرفه الثاني وهو أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ الآية متمثلا بها فإن ذلك يؤوّل قول ابن مسعود فأنزل الله تعالى الآية ، ويبين وجه قراءة النبي صلىاللهعليهوسلم إياها عند ما أخبره ابن مسعود بأنه قرأها تحقيقا لمثال من صور معنى الآية ، وهو أن مثل هذا النفر ممن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ، وذلك قاض بأن هؤلاء النفر كانوا مشركين يومئذ ، والآية تحق على من مات منهم كافرا مثل ربيعة بن أمية بن خلف.
وعلى بعض احتمالات هذا التفسير يكون فعل (تَسْتَتِرُونَ) مستعملا في حقيقته أي تستترون بأعمالكم عن سمعكم وأبصاركم وجلودكم ، وذلك توبيخ كناية عن أنهم ما كانوا يرون ما هم عليه قبيحا حتى يستتروا منه وعلى بعض الاحتمالات فيما ذكر يكون فعل (تَسْتَتِرُونَ) مستعملا في حقيقته ومجازه ، ولا يعوزك توزيع أصناف هذه الاحتمالات : أن بعضها مع بعض في كل تقدير تفرضه. وحاصل معنى الآية على جميع الاحتمالات : أن الله عليم بأعمالكم ونياتكم لا يخفى عليه شيء منها إن جهرتم أو سترتم وليس الله بحاجة إلى شهادة جوارحكم عليكم وما أوقعكم في هذا الضر إلا سوء ظنكم بجلال الله.
(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ) الإشارة إلى الظن المأخوذ من فعل (ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، ويستفاد من الإشارة إليه تمييزه أكمل تمييز وتشهير شناعته للنداء على ضلالهم. وأتبع اسم الإشارة بالبدل بقوله : (ظَنُّكُمُ) لزيادة بيانه ليتمكن ما يعقبه من الخبر ، والخبر هو فعل (أَرْداكُمْ) وما تفرع عليه.
و (الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) صفة ل (ظَنُّكُمُ). والإتيان بالموصول لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو (أَرْداكُمْ) وما تفرع عليه ، أي الذي ظننتم بربكم ظنا باطلا. والعدول عن اسم الله العلم إلى (بِرَبِّكُمْ) للتنبيه على ضلال ظنهم ، إذ ظنوا خفاء بعض أعمالهم عن علمه مع أنه ربهم وخالقهم فكيف يخلقهم وتخفى عنه أعمالهم ، وهو يشير إلى قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤] ، ففي وصف (بِرَبِّكُمْ) إيماء إلى هذا المعنى.
والإرداء : الإهلاك ، يقال : ردي كرضي ، إذا هلك ، أي مات ، والإرداء مستعار للإيقاع في سوء الحالة بحيث أصارهم مثل الأموات فإن ذلك أقصى ما هو متعارف بين الناس في سوء الحالة وفي الإتيان بالمسند فعلا إفادة قصر ، أي ما أرداكم إلا ظنكم ذلك ، وهو قصر إضافي ، أي لم تردكم شهادة جوارحكم حتى تلوموها بل أرداكم ظنكم أن الله لا يعلم أعمالكم فلم تحذروا عقابه.