يُستنتج ممّا ذكرناه أنّ الرزق يأتي بالمرحلة التي تلي الخلق وإيجاد الإنسان ، ويرتبط باستمرار حياته الماديّة والمعنوية ، ولذا اعتبر البعض أنّ أصل وجود الإنسان أو قواه وامكانياته جزء من الرزق (كالمرحوم الكفعمي في المصباح حيث يقول : إن رزق الله يعني بانّه خلق الأرزاق والمرتزقين) ، وهذا في الحقيقة نوعٌ من المجاز والاتساع في المعنى الحقيقي.
وعلى أيّة حال فإنّ وصف الباري في الآيات المذكورة بصفة : (خير الرازقين) يشير إلى الأبعاد المختلفة التالية :
فالبعد الأول : إنّ أي شيء يعطيه الباري إنّما هو من عنده ، وكل ما يمنحه الآخرون فهو ليس منهم ، بل هم واسطة لانتقال الأرزاق.
البعد الثاني : إنّه سبحانه يُعطي كُلّ شيء من أنواع النعم الماديّة والمعنوية والروحية ، الدنيوية والأخرويّة ، الظاهريّة والباطنية ، العلنية والخفيّة و.... ، في حين أنّ كل شيء يعطيه الآخرون محدودٌ من جميع النواحي.
والبعد الثالث : إنّه تعالى يأخذ بنظر الاعتبار حاجة العباد عند تقدير أرزاقهم ويرزقهم بما يُناسب حالهم ، لأنّه عليم باسرار المرتزقين الظاهريّة والباطنيّة ، ونعلمُ أنّ الآخرين ليسوا كذلك.
والبعد الرابع : إنّه الرّزاق الذي لا تنفد خزائنه أبداً لأنّ خزائن كل الأشياء بيده : (وَإِنْ مِّن شَيءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ). (الحجر / ٢١)
وفي حين يتصف الآخرون بالمحدوديّة التّامّة من هذه الجهة.
أمّا البعد الخامس : إنّه الرازق الذي يتناول من مائدته الصديق والعدو ، وجميعهم يتزوّدون من نعمته بمقتضى كونه الرحمن والرحيم.
لكن الآخرين لا يفكرون سوى بأصدقائهم وأقربائهم.
والبعد السادس : إنّه لا ينتظر لقاء عطائه وإنعامه جزاءاً ولا شكوراً ، لأنّه غني من كل ناحية ، لكن الآخرين ينتظرون ألف لونٍ من قبيل ذلك.