الأول : أن قوله ـ تعالى ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة. لتقدم المعمول على عامله.
الثاني : أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) فائدة (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ ما حرم عليهم من غير ذوى الظفر فقال ـ تعالى ـ : (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما ، أَوِ الْحَوايا ، أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ).
والشحم : هو المادة الدهنية التي تكون في الحيوان وبها يكون لحمه سمينا والعرب تسمى سنام البعير ، وبياض البطن شحما ، وغلب إطلاق الشحم على ما يكون فوق أمعاء الحيوان.
والحوايا : ـ كما قال ابن جرير ـ جمع حاوياء وحاوية ، وحوية وهي ما تحوى من البطن فاجتمع واستدار ، وفسرت بالمباعر ، والمرابض التي هي مجتمع الأمعاء في البطن (٢).
والمعنى : كما حرمنا على اليهود كل ذي ظفر ، فقد حرمنا عليهم كذلك من البقر والغنم شحومهما الزائدة التي تنتزع بسهولة ، إلا ما استثنيناه من هذه الشحوم وهو ما حملت ظهورهما أو ما حملت حواياهما ، أو اختلط من هذه الشحوم بعظمهما. فقد أحللناه لهم.
ثم بين ـ سبحانه ـ أن هذا التحريم كان نتيجة لطغيانهم فقال تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أى. هذا الذي حرمناه على الذين هادوا من الأنعام والطير ومن البقر والغنم ، وهذا التضييق الذي حكمنا به عليهم ، إنما ألزمناهم به ، بسبب بغيهم وظلمهم ، وتعديهم حدود الله تعالى.
قال قتادة : إنما حرم الله عليهم ما ليس بخبيث عقوبة لهم وتشديدا عليهم.
ولما كان هذا النبأ عن شريعة اليهود ، من الأنباء التي لم يكن النبي صلىاللهعليهوسلم وقومه يعلمون عنها شيئا لأميتهم ، وكان تكذيب اليهود له بأن الله لم يحرم ذلك عليهم عقوبة لهم ، لما كان الأمر كذلك ، أكد الله هذا النبأ بقوله : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ). أى : وإنا لصادقون ـ يا محمد ـ فيما أخبرناك به ، ومن بينه ما أعلمناك عنه مما حرمناه على اليهود من الطيبات وهم الكاذبون في زعمهم أن ذلك إنما حرمه إسرائيل على نفسه ، وأنهم إنما حرموه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه.
ومع أن الشحوم جميعا باستثناء ما أحله لهم منها محرمة عليهم ، فإنهم تحايلوا على شرع الله ،
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٦.
(٢) تفسير ابن جرير ج ٨ ص ٧٥.