والمراد بإنزال ما ذكر أنه خلق لبنى آدم مادة هذا اللباس التي تتكون من القطن والصوف والحرير وما إليها ، وألهمهم بما خلق فيهم من غرائز طرق استنباتها وصناعتها بالغزل والنسج والخياطة.
والتعبير بأنزلنا يفيد خصوصية البشر باللباس الذي يستر العورة ، وبالرياش التي يتزينون بها ، أى أنزلنا عليكم لباسين : لباسا يوارى سوآتكم ، ولباسا يزينكم ، لأن الزينة غرض صحيح وحبها من طبيعة البشر. قال ـ تعالى ـ : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً).
قال الجمل : «وقوله ـ تعالى ـ : (وَرِيشاً) يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات. والمعنى : أنه وصف اللباس بوصفين : مواراة السوأة ، والزينة. ويحتمل أن يكون من باب عطف الشيء على غيره. أى : أنزلنا عليكم لباسا موصوفا بالمواراة ، ولباسا موصوفا بالزينة» (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ أن هناك لباسا آخر أفضل وأكمل من كل ذلك فقال : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) أى : أن اللباس الذي يصون النفس من الدنايا والأرجاس ، ويسترها بالإيمان والعمل الصالح هو خير من كل لباس حسى يتزين به البشر. فاسم الإشارة هنا يعود على لباس التقوى. وقد عبر القرآن هنا عن التقوى بأنها لباس ، وعبر عنها في موضع آخر بأنها زاد مشاكلة للسياق الذي وردت فيه هنا أو هناك. وذلك من باب تجسيم المعنويات وتنسيقها مع الجو العام الذي وردت فيه ، وتلك طريقة انفرد بها القرآن الكريم.
قال صاحب الكشاف : وقوله : (وَلِباسُ التَّقْوى) مبتدأ ، وخبره إما الجملة التي هي (ذلِكَ خَيْرٌ) كأنه قيل : ولباس التقوى هو خير ، لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر. وإما المفرد الذي هو خير ، وذلك صفة للمبتدأ ، كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير» (٢).
وقوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) معناه : ذلك الذي أنزله الله على بنى آدم من النعم من دلائل قدرته وإحسانه عليهم ، لعلهم بعد ذلك لا يعودون إلى النسيان الذي أوقع أبويهم في المعصية.
قال صاحب الكشاف : وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر ظهور العورات وخصف الورق عليها ، إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العرى وكشف العورة من المهانة والفضيحة ، وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى (٣).
ثم أتبع القرآن النداء الأول بنداء آخر مبالغة في وعظ بنى آدم وتذكيرهم بفضل الله عليهم ، فقال ـ تعالى ـ :
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ١٣٢.
(٢ ، ٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٩٧.