قول إبراهيم ـ عليهالسلام ـ «ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون» ، لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة ، مجد الله ـ تعالى ـ بالانفراد بعلم الغائبات» (١).
ثم يترك شعيب ـ عليهالسلام ـ قومه وتهديدهم ووعيدهم ، ويتوجه إلى الله بالاعتماد والدعاء فيقول : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ).
أى : على الله وحده وكلنا أمرنا ، فهو الذي يكفينا أمر تهديدكم ووعيدكم ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، ربنا احكم بيننا وبين قومنا الذين ظلمونا بالحق وأنت خير الحاكمين ، لخلو حكمك عن الجور والحيف.
فقوله : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) إظهار للعجز من جانب شعيب ، وأنه في مواجهته لأولئك المستكبرين لا يعتمد إلا على الله وحده ، ولا يأوى إلا إلى ركنه المكين ، وحصنه الحصين. والجملة الكريمة تفيد الحصر لتقديم المعمول فيها.
وقوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا) إعراض عن مجادلتهم ومفاوضتهم بعد أن تبين له عنادهم وسفههم ، وإقبال على الله ـ تعالى ـ بالتضرع والدعاء.
والفتح : أصله إزالة الأغلاق عن الشيء ، واستعمل في الحكم ، لما فيه من إزالة الأشكال في الأمر. ومنه قيل للحاكم : فاتح وفتاح لفتحه أغلاق الحق ، وقيل للحكومة : الفتاحة ـ بضم الفاء وكسرها.
أخرج البيهقي عن ابن عباس قال : ما كنت أدرى قوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنَا افْتَحْ) حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها وقد جرى بينها وبينه كلام : تعال أفاتحك ، تريد أقاضيك وأحاكمك.
وقوله : (بِالْحَقِ) بهذا القيد إظهارا للنصفة والعدالة.
والخلاصة أنك إذا تأملت في رد شعيب ـ عليهالسلام ـ على ما قاله المستكبرون من قومه ، تراه يمثل أسمى ألوان الحكمة وحسن البيان ، فهو يرد على وعيدهم وتهديدهم بالرفض التام لما يبغون ، والبغض السافر لما يريدونه منه ، ثم يكل الأمور كلها إلى الله ، مظهرا الاعتماد عليه وحده ، ثم يتجه إليه ـ سبحانه ـ بالدعاء متلمسا منه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق الذي مضت به سنته في التنازع بين المرسلين والكافرين ، وبين سائر المحقين والمبطلين.
وهنا نلمح أن الملأ من قوم شعيب قد يئسوا من استمالة شعيب وأتباعه إلى ملتهم ، فأخذوا
__________________
(١) الانتصاف على الكشاف لابن المنير ج ٢ ص ١٣٠.