السابقين قد مكنوا بالفعل من وسائل العيش الرغيد ما لم يتيسر مثله لهؤلاء المنكرين لدعوة الإسلام ، وهذا أعظم في باب القدرة على إهلاك هؤلاء الذين هم أعجز من سابقيهم.
هذا ، وقد وصف الله أولئك المهلكين بسبب اجتراحهم للسيئات بصفات ثلاث لم تتوفر للمشركين المعاصرين للنبي صلىاللهعليهوسلم.
وصفهم ـ أولا ـ بأنهم كانوا أوسع سلطانا ، وأكثر عمرانا ، وأعظم استقرارا ، كما يفيده قوله تعالى (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ).
قال صاحب الكشاف : «والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا قوم عاد وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام ، والسعة في الأموال ، والاستظهار بأسباب الدنيا» (١).
ووصفهم ـ ثانيا ـ بأنهم كانوا أرغد عيشا ، وأسعد حالا ، وأهنأ بالا ، يدل على ذلك قوله تعالى :
(وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) أى : أنزلنا عليهم المطر النافع بغزارة وكثرة ، وعبر عنه بالسماء لأنه ينزل منها.
ووصفهم ـ ثالثا ـ بأنهم كانوا منعمين بالمياه الكثيرة التي يسيرون مجاريها كما يشاءون ، فيبنون مساكنهم على ضفافها. ويتمتعون بالنظر إلى مناظرها الجملية ، كما يرشد إليه قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أى : صيرنا الأنهار تجرى من تحت مساكنهم.
ولكن ماذا كانت عاقبة هؤلاء المنعمين بتلك النعم الوفيرة التي لم تتيسر لأهل مكة ؛ كانت عاقبتهم ـ كما أخبر القرآن عنهم ـ (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أى : فكفروا بنعمة الله وجحدوا فأهلكناهم بسبب ذلك ، إذ الذنوب سبب الانتقام وزوال النعم.
والإهلاك بسبب الذنوب له مظهران :
أحدهما : أن الذنوب ذاتها تهلك الأمم ، إذ تشيع فيها الترف والغرور والفساد في الأرض ، وبذلك تنحل وتضمحل وتذهب قوتها.
والمظهر الثاني : إهلاك الله ـ تعالى ـ لها عقابا عن أوزارها (٢).
وقوله ـ تعالى ـ في ختام الآية (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) يدل على كمال قدرة الله ،
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦.
(٢) تفسير سورة الأنعام لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ، مجلة لواء الإسلام السنة ٢٣ العدد الخامس ص ٢٤٢.