لا يستعصى على قدرتنا شيء ، ولكننا لم نفعل ذلك لأن سنتنا جرت أن نرفع من عنده الاستعداد لذلك أما الذين استحبوا العمى على الهدى فنذرهم في ضلالهم يعمهون.
وقد بين القرآن هذا المعنى في قوله : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) أخلد إلى الأرض : أى ركن إليها. وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود.
أى : ولو شئنا لرفعنا هذا الإنسان إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات ولكنه هو الذي ركن إلى الدنيا ، واطمأن بها ، واستحوذت بشهواتها على نفسه ، واختار لنفسه طريق التسفل المنافى للرفعة ، واتبع هواه في ذلك فلم ينتفع بشيء من الآيات التي آتيناه إياه.
أى : أن مقتضى هذه الآيات أن ترفع صاحبها إلى أعلى عليين ، ولكن هذا المقتضى عارضه مانع وهو إخلاد من أوتى هذه الآيات إلى الأرض واتباعه للهوى ، فتغلب المانع على المقتضى ، فهو كما قال القائل :
قالوا فلان عالم فاضل |
|
فأكرموه مثلما يقتضى |
فقلت : لما لم يكن عاملا |
|
تعارض المانع والمقتضى |
قال الآلوسى : وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه ـ تعالى ـ ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد ، مع أن الكل من الله ـ تعالى ـ ، إذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه. ومن هنا قال صلىاللهعليهوسلم اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك» (١).
وقوله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ).
اللهث : إدلاع اللسان بالنفس الشديد. يقال : لهث الكلب يلهث ـ كسمع ومنع ـ لهثا ولهاثا ، إذا أخرج لسانه في التنفس.
والمعنى : فمثل هذا الإنسان الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها وأصبح إيتاء الآيات وعدمها بالنسبة له سواء ، مثله كمثل الكلب إن شددت عليه وأتبعته لهث ، وإن تركته على حاله لهث ـ أيضا ـ ، فهو دائم اللهث في الحالين. لأن اللهث طبيعة فيه ، وكذلك حال الحريص على الدنيا ، المعرض عن الآيات بعد إيتائها ، إن وعظته فهو لإيثاره الدنيا على الآخرة لا يقبل الوعظ ، وإن تركت وعظه فهو حريص ـ أيضا ـ على الدنيا وشهواتها.
والإشارة في قوله (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ) إلى وصف الكلب أو إلى المنسلخ من الآيات ، أى :
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١١٤.