وقوله (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أى : لكانت حالي ـ كما قال الزمخشري ـ على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير ، واستغزار المنافع واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسني شيء منها ولم أكن غالبا مرة ومغلوبا أخرى في الحروب ، ورابحا وخاسرا في التجارات ومصيبا ومخطئا في التدابير» (١).
قال الجمل : فان قلت : قد أخبر صلىاللهعليهوسلم عن المغيبات وقد جاءت أحاديث في الصحيح بذلك وهو من أعظم معجزاته فكيف نوفق بينه وبين قوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) .. إلخ.؟ قلت : يحتمل أنه قاله على سبيل التواضع والأدب ، والمعنى : لا أعلم الغيب إلا أن يطلعني الله عليه ويقدره لي.
ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله على علم الغيب. فلما أطلعه الله أخبر به كما قال ـ تعالى ـ (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أو يكون خرج هذا الكلام مخرج الجواب عن سؤالهم ، ثم بعد ذلك أظهره ـ سبحانه ـ على أشياء من المغيبات فأخبر عنها ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة نبوته (٢).
ثم بين القرآن وظيفة الرسول صلىاللهعليهوسلم في قوله (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أى : ما أنا إلا عبد أرسلنى الله نذيرا وبشيرا ، وليس من مهمتى أو وظيفتي معرفة علم الغيب.
وقوله (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يجوز أن يتعلق بقوله (نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) جميعا لأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بالإنذار والتبشير ، ويجوز أن يتعلق بقوله (بَشِيرٌ) وحده ، وعليه يكون متعلق النذير محذوف أى : للكافرين. وحذف للعلم به :
وبهذا الإعلان من جانب الرسول صلىاللهعليهوسلم للناس عن وظيفته ، تتم لعقيدة التوحيد الإسلامية كل خصائص التجريد المطلق من الشرك في أية صورة من صوره ، وتنفرد الذات الإلهية بخصائص لا يشاركها فيها بشر ولو كان هذا البشر محمدا صلىاللهعليهوسلم فعند عتبة الغيب تقف الطاقة البشرية ، ويقف العلم البشرى ، وتقف القدرة البشرية ، إذ علم الغيب إنما هو لله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن مظاهر قدرة الله وأدلة وحدانيته ، فذكرت الناس بمبدأ نشأتهم ، وكيف أن بعضهم قد انحرف عن طريق التوحيد إلى طريق الشرك ، وساقت ذلك في صورة القصة لضرب المثل من واقع الحياة فقالت :
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٨٥.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢١٨.