والضمير في (يُشْرِكُونَ) يعود على أولئك الآباء الذين جعلوا لله شركاء : هذا والمحققون من العلماء يرون أن هاتين الآيتين قد سيقتا توبيخا للمشركين حيث إن الله ـ تعالى ـ أنعم عليهم بخلقهم من نفس واحدة ، وجعل أزواجهم من أنفسهم ليأنسوا بهن ، وأعطاهم الذرية ، وأخذ عليهم العهود بشكره على هذه النعم ، ولكنهم جحدوا نعمه وأشركوا معه في العبادة والشكر آلهة أخرى (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
ويرى بعض المفسرين أن المراد بهذا السياق آدم وحواء ، واستدلوا على ذلك بما رواه الإمام أحمد ـ بسنده ـ عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لما طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته عبد الحارث فعاش ، وكان ذلك من وحى الشيطان وأمره.
وقد أثبت ابن كثير في تفسيره ضعف هذا الحديث من عدة وجوه ، ثم قال : قال الحسن : عنى الله ـ تعالى ـ بهذه الآية ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده ، وقال قتادة : كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا. قال ابن كثير : وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية ، ونحن على مذهب الحسن البصري في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ، ولهذا قال : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١).
وقال صاحب الانتصاف : والأسلم والأقرب أن يكون المراد ـ والله أعلم ـ جنسى الذكر والأنثى لا يقصد فيه إلى معين. وكأن المعنى خلقكم جنسا واحدا ، وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن ، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر ، الجنس الآخر الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت. وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون على حد قولهم : «بنو فلان قتلوا قتيلا» يعنى من نسبة البعض إلى الكل (٢).
والذي نراه أن الآيتين واردتان في توبيخ المشركين على شركهم ونقضهم لعهودهم مع الله ـ تعالى ـ لأن الأحاديث والآثار التي وردت في أنهما وردتا في شأن آدم وحواء لتسميتهما ابنهما بعبد الحارث اتباعا لوسوسة الشيطان لهما ـ ليست صحيحة ، كما أثبت ذلك علماء الحديث.
ثم أخذت السورة بعد ذلك في توبيخ المشركين ، وفي إبطال شركهم بأسلوب منطقي حكيم فقالت :
__________________
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٧٤.
(٢) الانتصاف على الكشاف ج ٢ ص ١٨٦ لابن المنبر ـ بتصرف يسير ـ.