وبهذا تدخل جميع المسائل الأصوليّة وتخرج غيرها من مسائل النحو والمنطق ؛ لأنّه ليس فيها مسألة يستنبط منها حكم بلا توسّط ولو فرضا ، فافهم.
ثمّ المراد من الحكم هو الحكم الشرعي الكلّي ، وبهذا تمتاز المسائل الأصوليّة ؛ فإنّ المسائل الأصوليّة مسائل يعلمها المجتهد بخلاف المسائل الفقهيّة فإنّها تلقى إلى المكلّف ابتداء ، مثلا في المسألة الأصوليّة لا يلقي المجتهد : رفع ما لا يعلمون إلى المقلّد ليعمل بها وإنّما يطبّقها على مواردها ، فيفتي بجواز شرب التتن مثلا وعدم وجوب صلاة ركعتين عند رؤية الهلال وهكذا ، وهذا بخلاف المسائل الفقهيّة كقاعدة التجاوز والفراغ ، فإنّ المجتهد يلقي إلى المكلّف قوله : كلّما شككت في صحّة عمل قد عملته فلا تعتني بشكّك.
ومن هنا يعلم أنّ مسألة أصالة الطهارة في الشبهات الحكميّة مسألة اصوليّة ؛ إذ نقول في مقام الإلقاء إلى المكلّف : الحديد طاهر مثلا وأشباهه.
ومن هنا ظهر أنّ التعريف المذكور صحيح وأنّ لفظة الاستنباط فيه واقعة بمعناها وأنّه الاستخراج. وظهر أنّه لا وجه لما ذكره بعض مشايخنا (١) من أنّ المراد منه تحصيل الحجّة وأنّه شامل حتّى للأصول العقليّة ، فإنّ المجعول في جميعها التنجير والإعذار عند الإصابة والخطأ ؛ ضرورة أنّ معنى الاستنباط ليس ما ذكره أوّلا كما هو معلوم لمن راجع اللغة (٢).
وثانيا : أنّ ما ذكره إنّما يتمّ حيث يكون الحكم الواقعي إلزاميّا ، فإن أصابه الأصل أو الأمارة نجّزه وإن أخطأه فهو معذور ، ولا يتمّ حيث يكون الحكم الواقعي عدم الوجوب والحكم الظاهري أيضا عدم الوجوب ، أو كان الحكم الظاهري الإباحة ؛ فإنّ التنجيز والإعذار لا مجال لهما ، مضافا إلى أنّ المجعول إنّما هو صفة الطريقيّة كما سيأتي لا التنجير والإعذار ، فافهم.
__________________
(١) بحوث في الاصول للشيخ محمد حسين الاصفهاني : ٢٠ ، ونهاية الدراية ١ : ٤٢.
(٢) مختار الصحاح للجوهري : ٦٤٣ ، (نبط).