وهناك دلالة ثالثة وهي دلالة الألفاظ على كون المتكلّم مريدا للإخبار وبصدده بإرادة جدّيّة لا هازلا أو كان في سخرية. ولا ريب في أنّ هذه الدلالة الثالثة إنّما هي ببناء العقلاء وليست بوضع فهذه الدلالة الثالثة أجنبيّة عن محل الكلام ، وإنّما الكلام في أنّ دلالة اللفظ الوضعيّة بإزاء المعنى الأوّل أم بإزاء الثاني ، وأنّ العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى الذي ذكرناه أوّلا أم بين اللفظ والمعنى الثاني؟ ذهب المشهور إلى كون العلقة بين اللفظ والمعنى التصوّري ، فهو يدلّ على معناه بالدلالة التصوريّة ، وذهب الشيخ الرئيس (١) والمحقق الطوسي (٢) إلى الثاني وهو الذي يقتضيه النظر الدقيق.
بيان ذلك : أنّا ذكرنا أنّ ظاهر حال الناطق أنّه في صدد إفهام ما ينطق به فدلالته على المعنى تابعة لإرادته منه ؛ إذ لو لم يرد المعنى لم تكن الدلالة الاستعماليّة متحقّقة أصلا ، بل على ما ذكرنا من معنى الوضع وأنّه التعهد والالتزام لا بدّ من كون العلقة الوضعية كما ذكرنا ؛ إذ لا معنى لأن يتعهّد الواضع أنّ اللفظ دالّ على معناه وإن صدر بغير شعور واختيار ؛ ضرورة أنّ دلالته حينئذ ليست باختيار الواضع حتّى يتعهّد بها.
وما يقال من أنّا نتصوّر المعنى وإن صدر اللفظ من اصطكاك الحجرين فهو مسلّم إلّا أنّ هذه الدلالة هي الدلالة الأنسية وهي لا تتبع الوضع ، بل لو صرّح الواضع بأنه يضعها للمعنى المراد للمتكلّم لم تزل تلك الدلالة الأنسية ولو صدر اللفظ من اصطكاك الحجرين ، مضافا إلى أنّ حكمة الوضع كما أسلفنا ذلك هي التفهيم ليس إلّا ، فلا بدّ من كون دلالتها موقوفة على تحقّق قصد التفهيم.
__________________
(١) راجع الشفاء : قسم المنطق ، المقالة الأولى من الفنّ الأوّل ، الفصل الثامن : ٤٢ ـ ٤٣.
(٢) انظر الجوهر النضيد : ٨.