وبما ذكرنا يندفع إشكال معروف وإن كان أجنبيّا عن التعبّدي والتوصّلي ، وملخّصه : أنّه إذا كان الغرض من الأوامر الشرعيّة والنواهي هي الداعويّة إلى فعل الواجبات وترك المحرّمات ، فمن المعلوم أنّ كثيرا من الواجبات يفعلها الإنسان وإن لم يأمر بها المولى كالإنفاق على الزوجة والأولاد ، وكثيرا من المحرّمات يتركها وإن لم ينه عنها الشارع كأكل القاذورات ، فما فائدة الأمر والنهي هنا؟ وملخّص الجواب : أنّ قابليّة كونه باعثا وزاجرا هو الفائدة في ذلك.
ثمّ يعود إشكال آخر : أنّ الغرض التوصّل إلى وجود الأوّل خارجا وترك الثاني ، والمفروض تحقّقهما ، فما فائدة قابليّة الباعثيّة والزاجريّة؟
وجوابه : أنّ فائدة ذلك هو تكميل النفس ، فإنّه إذا علم الإنسان الكامل بوجود أمر أو نهي يضيف عمله إلى مولاه فيحصل له بذلك تكميل نفسه وبلوغها أوج الرفعة الروحيّة ، والمقصود الأوّلي من تشريع الأحكام هو ذلك ، فإنّ المولى المشرّع ليس محتاجا إلى شيء وإنّما أراد تكميلنا بلطفه فشرع الأحكام ، فافهم وتأمّل فإنّه مبحث دقيق.
ثانيها : ما ذكره بعضهم (١) وهو قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(٢) بتقريب : أنّه حصر أمره بما كان عبادة وجعل الغاية من أمره هو العبادة ليس إلّا ، فإذا دلّ دليل على عدم كون المأمور به عباديا نخرج بالتخصيص عن مقتضى هذه الآية ، وإذا لم يدلّ الدليل كما في موارد الشك فمقتضى كونه عبادة عدم سقوط الأمر بغير قصد التقرّب.
ويرد عليها أوّلا : لزوم تخصيص الأكثر ، فإنّ أكثر الواجبات بل جميع الواجبات المشرّعة لحفظ النظام من كفائية وعينيّة توصّليّة ليس إلّا ، وتخصيص الأكثر مستهجن.
وثانيا : أنّ المقصود من هذه الآية بقرينة ما قبلها : أنّ التفرّق الموجود في أهل الكتاب لم يكن إلّا بعد إتمام الحجّة عليهم نتيجة تقليدهم واتّباعهم لعلمائهم وعبادتهم
__________________
(١) نسبه في أجود التقريرات ١ : ١٧١ إلى الكلباسي في الإشارات ١ : ٥٦ ـ ٥٧.
(٢) البيّنة : ٥.