وتنكّرت ، وأدبر معروفها ، واستمرت جدّاً ، فلم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون أنَّ الحقّ لا يُعمل به ، وأنَّ الباطل لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برماً».
قال أبو مخنف : فقام زهير بن القين البجلي فقال لأصحابه : تكلّمون أم أتكلّم؟ قالوا : لا بل تكلّم. فحمد الله فأثنى عليه ، ثمّ قال : قد سمعنا هداك الله يابن رسول الله مقالتك ، والله لو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنّا فيها مخلّدين إلاّ أنّ فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها. قال : فدعا له الحسين عليهالسلام ثمّ قال له خيراً.
وأقبل الحرّ يسايره وهو يقول له : يا حسين ، إنّي أذكّرك الله في نفسك ؛ فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلنّ ، ولئن قوتلت لتهلكنّ فيما أرى.
فقال له الحسين عليهالسلام : «أفبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟! ما أدري ما أقول لك ، ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال له : أين تذهب فإنّك مقتول؟ فقال :
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى |
|
إذا ما نوى حقّاً وجاهدَ مسلما |
وآسى الرجالَ الصالحين بنفسه |
|
وفارقَ مثبوراً يغشّ ويرغما |
قال : فلمّا سمع ذلك منه الحرّ تنحّى عنه ، وكان يسير بأصحابه في ناحية ، وحسين في ناحية أخرى حتّى انتهوا إلى عُذيب الهِجّانات ، وكان بها هجائن (١) النعمان ترعى هنالك ، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون فرساً (٢) لنافع بن هلال يُقال له : الكامل ، ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي على فرسه.
قال : فلمّا انتهوا إلى الحسين عليهالسلام أنشدوه هذه الأبيات ، فقال : «أما والله إنّي لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا ، قُتلنا أم ظفرنا». قال : وأقبل إليهم الحرّ بن يزيد فقال : إنّ هؤلاء
__________________
(١) الهجائن : هي الابل البيض الكريمة.
(٢) اي يسيرون بجانبهم فرسا لنافع ليس عليه راكب.