ثم إن كانت (ما) شرطية كانت دلالتها على عموم مفهومها المبين بحرف (مِنْ) البيانية أظهر لأن شرطها الماضي يصح أن يكون بمعنى المستقبل كما هو كثير في الشروط المصوغة بفعل المضيّ والتعليق الشرطي يمحّضها للمستقبل ، وإن كانت (ما) موصولة كانت دلالتها محتملة للعموم وللخصوص لأن الموصول يكون للعهد ويكون للجنس.
وأيّا ما كان فهو دال على أن من المصائب التي تصيب الناس في الدنيا ما سلطه الله عليهم جزاء على سوء أعمالهم وإذا كان ذلك ثابتا بالنسبة لأناس معيّنين كان فيه نذارة وتحذير لغيرهم ممن يفعل من جنس أفعالهم أن تحل بهم مصائب في الدنيا جزاء على أعمالهم زيادة في التنكيل بهم إلا أن هذا الجزاء لا يطّرد فقد يجازي الله قوما على أعمالهم جزاء في الدنيا مع جزاء الآخرة ، وقد يترك قوما إلى جزاء الآخرة ، فجزاء الآخرة في الخير الشر هو المطّرد الموعود به ، والجزاء في الدنيا قد يحصل وقد لا يحصل كما قال تعالى : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) كما سنبينه.
وهذا المعنى قد تكرر ذكره في آيات وأحاديث كثيرة بوجه الكلية وبوجه الجزئية ، فممّا جاء بطريق الكلية قوله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) [الفجر : ١٥ ـ ١٩] الآية ، فقوله : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) مرتب على قوله : (كَلَّا) المرتب على قوله : (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) وقوله : (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) ، فدل على أن الكرامة والإهانة إنما تسببا على عدم إكرام اليتيم والحضّ على طعام المسكين ، وقال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم : ٤١].
وفي «سنن الترمذي» : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر». وهو ينظر إلى تفسير هذه الآية ، وأما ما جاء على وجه الجزئية فمنه قوله تعالى حكاية عن نوح (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) [نوح : ١٠ ـ ١٢] وقوله حكاية عنه (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) في سورة نوح [٣ ، ٤]. وقوله خطابا لبني إسرائيل (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية في سورة البقرة [٨٥] ، وقوله (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)