هذا فما صدق الظالمين : هم الذين أصابوا المؤمنين بالبغي.
ويجوز أيضا أن يكون التعليل بقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) منصرفا لمفهوم جملة (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) أي دون تجاوز المماثلة في الجزاء كقوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النمل : ١٢٦] فيكون ما صدق (الظَّالِمِينَ) : الذين يتجاوزون الحد في العقوبة من المؤمنين على أن يكون تحذيرا من مجاوزة الحدّ ، كقول النبيصلىاللهعليهوسلم : «من حام الحمى يوشك أن يقع فيه».
وقد شملت هذه الآية بموقعها الاعتراضي أصول الإرشاد إلى ما في الانتصار من الظالم وما في العفو عنه من صلاح الأمة ، ففي تخويل حق انتصار المظلوم من ظالمه ردع للظالمين عن الإقدام على الظلم خوفا من أن يأخذ المظلوم بحقه ، فالمعتدي يحسب لذلك حسابه حين الهمّ بالعدوان.
وفي الترغيب في عفو المظلوم عن ظالمه حفظ آصرة الأخوة الإسلامية بين المظلوم وظالمه كيلا تنثلم في آحاد جزئياتها بل تزداد بالعفو متانة كما قال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت : ٣٤].
على أن الله تعالى لم يهمل جانب ردع الظالم فأنبأ بتحقيق أنه بمحل من غضب الله عليه إذ قال : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ولا ينحصر ما في طي هذا من هول الوعيد.
وتنشأ على معنى هذه الآية مسألة غرّاء تجاذبتها أنظار السلف بالاعتبار ، وهي : تحليل المظلوم ظالمه من مظلمته. قال أبو بكر بن العربي في «الأحكام» : روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك وسئل عن قول سعيد بن المسيّب : لا أحلّل أحدا ، فقال : ذلك يختلف. فقلت : الرجل يسلف الرجل فيهلك ولا وفاء له قال : أرى أن يحلله ، وهو أفضل عندي لقول الله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر : ١٨] ، وإن كان له فضل يتبع فقيل له : الرجل يظلم الرجل ، فقال : لا أرى ذلك ، وهو عندي مخالف للأول لقول الله تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) [الشورى : ٤٢] ، ويقول تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) [التوبة : ٩١] فلا أرى أن تجعله من ظلمه في حلّ.
قال ابن العربي فصار في المسألة ثلاثة أقوال : أحدها : لا يحلّله بحال قاله ابن المسيّب. والثاني : يحلّله ، قاله ابن سيرين ، زاد القرطبي وسليمان بن يسار ، الثالث : إن كان مالا حلّله وإن كان ظلما لم يحلّله وهو قول مالك.