والمراد بالروح من أمر الله : ما أوحي به إلى النبي صلىاللهعليهوسلم من الإرشاد والهداية سواء كان بتلقين كلام معين مأمور بإبلاغه إلى النّاس بلفظه دون تغيّر وهو الوحي القرآني المقصود منه أمران : الهداية والإعجاز ، أم كان غير مقيد بذلك بل الرّسول مأمور بتبليغ المعنى دون اللّفظ وهو ما يكون بكلام غير مقصود به الإعجاز ، أو بإلقاء المعنى إلى الرّسول بمشافهة الملك ، وللرّسول في هذا أن يتصرف من ألفاظ ما أوحي إليه بما يريد التعبير به أو برؤيا المنام أو بالإلقاء في النّفس كما تقدم. واختتام هذه السورة بهذه الآية مع افتتاحها بقوله : (كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الشورى : ٧] الآية فيه محسن ردّ العجز على الصدر.
وجملة (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) في موضع الحال من ضمير (أَوْحَيْنا) أي أوحينا إليك في حال انتفاء علمك بالكتاب والإيمان ، أي أفضنا عليك موهبة الوحي في حال خلوّك عن علم الكتاب وعلم الإيمان. وهذا تحدّ للمعاندين ليتأملوا في حال الرّسولصلىاللهعليهوسلم فيعلموا أن ما أوتيه من الشريعة والآداب الخلقية هو من مواهب الله تعالى التي لم تسبق له مزاولتها ، ويتضمن امتنانا عليه وعلى أمته المسلمين.
ومعنى عدم دراية الكتاب : عدم تعلق علمه بقراءة كتاب أو فهمه. ومعنى انتفاء دراية الإيمان : عدم تعلق علمه بما تحتوي عليه حقيقة الإيمان الشرعي من صفات الله وأصول الدين وقد يطلق الإيمان على ما يرادف الإسلام كقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] وهو الإيمان الذي يزيد وينقص كما في قوله تعالى : (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) [المدثر : ٣١]. فيزاد في معنى عدم دراية الإيمان انتفاء تعلق علم الرّسولصلىاللهعليهوسلم بشرائع الإسلام. فانتفاء درايته بالإيمان مثل انتفاء درايته بالكتاب ، أي انتفاء العلم بحقائقه ولذلك قال : (ما كُنْتَ تَدْرِي) ولم يقل : ما كنت مؤمنا.
وكلا الاحتمالين لا يقتضي أن الرّسول صلىاللهعليهوسلم لم يكن مؤمنا بوجود الله ووحدانية إلهيته قبل نزول الوحي عليه إذ الأنبياء والرّسل معصومون من الشرك قبل النبوءة فهم موحّدون لله ونابذون لعبادة الأصنام ، ولكنهم لا يعلمون تفاصيل الإيمان ، وكان نبيئنا صلىاللهعليهوسلم في عهد جاهلية قومه يعلم بطلان عبادة الأصنام ، وإذ قد كان قومه يشركون مع الله غيره في الإلهية فبطلان إلهية الأصنام عنده تمحّضه لإفراد الله بالإلهية لا محالة.
وقد أخبر بذلك عن نفسه فيما رواه أبو نعيم في «دلائل النبوءة» عن شداد بن أوس وذكره عياض في «الشفاء» غير معزو : «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لمّا نشأت ـ أي عقلت ـ بغّضت إليّ الأوثان وبغض إليّ الشعر ، ولم أهمّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين