البلاغة المكانة العليا :
الوجه الأول : أن يكون الإتيان مستعارا لقبول التكوين كما استعير للعصيان الإدبار في قوله تعالى : (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) [النازعات : ٢٢] ، وقول النبي صلىاللهعليهوسلم لمسيلمة حين امتنع من الإيمان والطاعة في وفد قومه بني حنيفة «لئن أدبرت ليعقرنك الله» ، وكما يستعار النفور والفرار للعصيان. فمعنى (ائْتِيا) امتثلا أمر التكوين. وهذا الامتثال مستعار للقبول وهو من بناء المجاز على المجاز وله مكانة في البلاغة ، والقول على هذا الوجه مستعار لتعلق القدرة بالمقدور كما في قوله : (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢].
وقوله : (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) كناية عن عدم البدّ من قبول الأمر وهو تمثيل لتمكن القدرة من إيجادهما على وفق إرادة الله تعالى فكلمة (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) جارية مجرى الأمثال. و (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) مصدران وقعا حالين من ضمير (ائْتِيا) أي طائعين أو كارهين.
والوجه الثاني : أن تكون جملة (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) مستعملة تمثيلا لهيئة تعلق قدرة الله تعالى لتكوين السماء والأرض لعظمة خلقهما بهيئة صدور الأمر من آمر مطاع للعبد المأذون بالحضور لعمل شاق أن يقول له : ائت لهذا العمل طوعا أو كرها ، لتوقع إبائه من الإقدام على ذلك العمل ، وهذا من دون مراعاة مشابهة أجزاء الهيئة المركبة المشبّهة لأجزاء الهيئة المشبه بها ، فلا قول ولا مقول ، وإنما هو تمثيل ، ويكون (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) على هذا من تمام الهيئة المشبه بها وليس له مقابل في الهيئة المشبهة. والمقصود على كلا الاعتبارين تصوير عظمة القدرة الإلهية ونفوذها في المقدورات دقّت أو جلّت.
وأما قوله : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) فيجوز أن يكون قول السماء والأرض مستعارا لدلالة سرعة تكونهما لشبههما بسرعة امتثال المأمور المطيع عن طواعية فإنه لا يتردد ولا يتلكّأ على طريقة المكنية والتخييل من باب قول الراجز الذي لا يعرف تعيينه :
امتلأ الحوض وقال قطني
وهو كثير ، ويجوز أن يكون تمثيلا لهيئة تكوّن السماء والأرض عند تعلق قدرة الله تعالى بتكوينهما بهيئة المأمور بعمل تقبله سريعا عن طواعية. وهما اعتباران متقاربان ، إلا أن القول ، والإتيان ، والطوع ، على الاعتبار الأول تكون مجازات ، وعلى الاعتبار الثاني