ومن لا خلاق لهم من الخير ، فتعين أن المال قسمة من الله على النّاس جعل له أسبابا نظمها في سلك النظم الاجتماعية وجعل لها آثارا مناسبة لها ، وشتان بينها وبين مواهب النفوس الزكية والسرائر الطيبة ، فالمال في الغالب مصدر لإرضاء الشهوات ومرصد للتفاخر والتطاول. وأما مواهب النفوس الطيّبة فمصادر لنفع أصحابها ونفع الأمة ، ففي أهل الشر أغنياء وفقراء وفي أهل الخير أمثال ذلك ، فظهر التباين بين آثار كسب المال وآثار الفضائل النفسانية.
ويحصل من هذا التحقير للمال إبطال ثالث لما أسسوا عليه قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، فهذه الجملة عطف على جملة (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف : ٣٢].
والنّاس يحتمل أن يراد به جميع النّاس ، فيكون التعريف للاستغراق ، أي جميع البشر. والأمة : الجماعة من البشر المتميزة عن غيرها باتحاد في نسب أو دين أو حالة معرّف بها فمعنى أن يكون النّاس أمة واحدة يحتمل أن لو لا أن يصير البشر على دين واحد وهو الغالب عليهم يومئذ ، أي الكفر ونبذ الفكرة في الآخرة وعلى هذا تفسير ابن عباس والحسن وقتادة والسدي (١).
فالمعنى عليه : لو لا أن يصير النّاس كلّهم كفارا لخصصنا الكافرين بالمال والرفاهية وتركنا المسلمين لما ادّخرنا لهم من خيرات الآخرة ، فيحسب ضعفاء العقول أن للكفر أثرا في حصول المال جعله الله جزاء لمن سماهم بالكافرين فيتبعوا دين الكفر لتخيّلهم الملازمة بين سعادة العيش وبين الكفر ، وقد كان النّاس في الأجيال الأولى أصحاب أوهام وأغلاط يجعلون للمقارنة حكم التسبب فيؤول المعنى إلى : لو لا تجنب ما يفضي إلى عموم الكفر وانقراض الإيمان ، لجعلنا المال لأهل الكفر خاصة ، أي والله لا يحب انقراض الإيمان من النّاس ولم يقدّر اتحاد النّاس على ملة واحدة بقوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٨ ، ١١٩] أي أن الله لطف بالعباد فعطّل ما يفضي بهم إلى اضمحلال الهدى من بينهم ، أي أبقى بينهم بصيصا من نور الهدى.
ويحتمل وهو الأولى عندي : أن يكون التعريف في (النَّاسُ) للعهد مرادا به بعض طوائف البشر وهم أهل مكة وجمهورهم على طريقة الاستغراق العرفي وعلى وزان قوله
__________________
(١) جمعناهم في هذا التأويل لأن مآل أقوالهم متقاربة.