الحق حالة وهن الشيطان فتتغلب القوة الملكية على القوة الشيطانية فيفيق صاحبها من نومة ضلاله. وقد أشار إلى ذلك قوله : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزخرف : ٥] كما تقدم هنالك ، ولو لا ذلك لما ارعوى ضالّ عن ضلاله ولما نفع إرشاد المرشدين في نفوس المخاطبين.
فجملة (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) عطف على جملة (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ) [الزخرف : ٣٠] الآية.
فجملة (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) تمثيل لحالهم في إظهارهم عدم فهم القرآن كقولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] بحال من يعشو عن الشيء الظاهر للبصر.
و (يَعْشُ) : مضارع عشا كغزا عشوا بالواو ، إذا نظر إلى الشيء نظرا غير ثابت يشبه نظر الأعشى ، وأما العشا بفتح العين والشين فهو اسم ضعف العين عن رؤية الأشياء ، يقال : عشي بالياء مثل عرج إذا كانت في بصره آفة العشا ومصدره عشى بفتح العين والقصر مثل العرج. والفعل واوي عشا يعشو ، ويقال عشي يعشى إذا صار العشا له آفة لأن أفعال الأدواء تأتي كثيرا على فعل بكسر العين مثل مرض. وعشي ياؤه منقلبة عن واو لأجل كسرة صيغة الأدواء.
فمعنى (وَمَنْ يَعْشُ) من ينظر نظرا غير متمكن في القرآن ، أي من لا حظّ له إلا سماع كلمات القرآن دون تدبر وقصد للانتفاع بمعانيه ، فشبه سماع القرآن مع عدم الانتفاع به بنظر الناظر دون تأمل.
وعدي (يَعْشُ) ب (عَنْ) المفيدة للمجاوزة لأنه ضمن معنى الإعراض عن ذكر الرحمن وإلا فإن حقّ عشا أن يعدّى ب (إلى) كما قال الحطيئة :
متى تأته تعشه إلى ضوء ناره |
|
تجد خير نار عندها خير موقد |
ولا يقال : عشوت عن النّار إلا بمثل التضمين الذي في هاته الآية. فتفسير من فسّر (يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) بمعنى يعرض : أراد تحصيل المعنى باعتبار التعدية ب (عَنْ) ، وإنكار من أنكر وجود (عشا) بمعنى أعرض أراد إنكار أن يكون معنى أصليا لفعل (عشا) وظن أن تفسيره بالإعراض تفسير لمعنى الفعل وليس تفسيرا للتعدية ب (عَنْ) فالخلاف بين الفريقين لفظي.