و (ذِكْرِ الرَّحْمنِ) هو القرآن المعبر عنه بالذكر في قوله : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) [الزخرف : ٥]. وإضافته إلى (الرَّحْمنِ) إضافة تشريف وهذا ثناء خامس على القرآن.
والتقييض : الإتاحة وتهيئة شيء لملازمة شيء لعمل حتى يتمه ، وهو مشتق من اسم جامد وهو قيض البيضة ، أي القشر المحيط بما في داخل البيضة من المحّ لأن القيض يلازم البيضة فلا يفارقها حتى يخرج منها الفرخ فيتم ما أتيح له القيض.
فصيغة التفعيل للجعل مثل طيّن الجدار : ومثل أزره ، أي ألبسه الإزار ، ودرّعوا الجارية ، أي ألبسوها الدرع. وأصله هنا تشبيه أي نجعله كالقيض له ، ثم شاع حتى صار معنى مستقلا ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) في سورة فصّلت [٢٥] فضمّ إليه ما هنا. وأتى الضمير في (لَهُ) مفردا لأن لكل واحد ممن تحقق فيهم الشرط شيطانا وليس لجميعهم شيطان واحد ولذلك سيجيء في قوله : (قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) [الزخرف : ٣٨] بالإفراد ، أي قال كل من له قرين لقرينه.
ولم يذكر متعلق فعل (نُقَيِّضْ) اكتفاء بدلالة مفعوله وهو (شَيْطاناً) فعلم منه أنه مقيض لإضلاله ، أي هم أعرضوا عن القرآن لوسوسة الشيطان لهم.
وفرع عن (نُقَيِّضْ) قوله : (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) لأن التقيض كان لأجل مقارنته.
ومن الفوائد التي جرت في تفسير هذه الآية ما ذكره صاحب «نيل الابتهاج بتطريز الديباج» في ترجمة الحفيد محمد بن أحمد بن محمد الشهير بابن مرزوق قال : قال صاحب الترجمة : حضرت مجلس شيخنا ابن عرفة أول مجلس حضرته فقرأ (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) فقال : قرئ يعشو بالرفع و (نُقَيِّضْ) بالجزم (١). ووجهها أبو حيان بكلام ما فهمته. وذكر أن في النسخة خللا وذكر بعض ذلك الكلام. فاهتديت إلى تمامه وقلت : يا سيدي معنى ما ذكر أن جزم (نُقَيِّضْ) ب (مَنْ) الموصولة لشبهها بالشرطية لما تضمّنها من معنى الشرط وإذا كانوا يعاملون الموصول الذي لا يشبه لفظ الشرط بذلك فما يشبه لفظه لفظ الشرط أولى بتلك المعاملة. فوافق وفرح لما أن الإنصاف كان طبعه. وعند ذلك أنكر عليّ جماعة من أهل المجلس وطالبوني بإثبات معاملة الموصول معاملة الشرط فقلت : نصهم على دخول الفاء في خبر الموصول في نحو : الذي يأتيني فله درهم ،
__________________
(١) هذه القراءة تنسب إلى زيد بن علي إمام الزيدية.