هذه الجملة جعلها جميع المفسرين جوابا عن قول القائلين (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) [الدخان : ١٢] تكذيبا لوعدهم ، أي هم لا يتذكرون ، وكيف يتذكرون وقد جاءهم ما هو أقوى دلالة من العذاب وهي دلائل صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم وأمّا على التأويل الذي انتزعناه من تركيب الآية فهي جملة مستأنفة ناشئة عن قوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) [الدخان : ٩] وهي كالنتيجة لها لأنهم إذا كانوا في شك يلعبون فقد صاروا بعداء عن الذكرى.
و (أَنَّى) اسم استفهام أصله استفهام عن أمكنة حصول الشيء ويتوسعون فيها فيجعلونها استفهاما عن الأحوال بمعنى (كيف) بتنزيل الأحوال منزلة ظروف في مكان كما هنا بقرينة قوله : (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ). والمعنى : من أين تحصل لهم الذكرى والمخافة عند ظهور الدخان المبين وقد سدت عليهم طرقها بطعنهم في الرسولصلىاللهعليهوسلم الذي أتاهم بالتذكير.
والاستفهام مستعمل في الإنكار والإحالة ، أي كيف يتذكرون وهم في شك يلعبون وقد جاءهم رسول مبين فتولوا عنه وطعنوا فيه. فجملة (وَقَدْ جاءَهُمْ) في موضع الحال.
و (مُبِينٌ) اسم فاعل إما من أبان المتعدّي ، وحذف مفعوله لدلالة (الذِّكْرى) عليه ، أي مبين لهم ما به يتذكرون ، ويجوز أن يكون من أبان القاصر الذي هو بمعنى بان ، أي رسول ظاهر ، أي ظاهرة رسالته عن الله بما توفر معها من دلائل صدقه.
وإيثار (مُبِينٌ) بتخفيف الياء على (مُبِينٌ) بالتشديد من نكت الإعجاز ليفيد المعنيين.
و (ثُمَ) للتراخي الرتبي وهو ترقّ من مفاد قوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) [الدخان : ٩] الذي اتصلت به جملة كانت جملة (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) من متعلّقاتها.
فالمعنى : وقد جاءهم رسول فشكّوا في رسالته ثم تولّوا عنه وطعنوا فيه ، فالتولّي والطعن حصلا عند حصول الشك واللعب ، ولذلك كانت (ثُمَ) للتراخي الرتبي لا لتراخي الزمان. ومعنى التراخي الرتبي هنا أن التولي والبهتان أفظع من الشك واللعب. والمعلّم الذي يعلّمه غيره ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) في سورة النحل [١٠٣].
والمعنى : أنهم وصفوه مرة بأنه يعلّمه غيره ، ووصفوه مرة بالجنون ، تنقلا في البهتان ، أو وصفه فريق بهذا وفريق بذلك ، فالقول موزع بين أصحاب ضمير (قالُوا) أو