بحيث إن دلائل إرادة العدل في تصاريفها قائمة ، وما أودعه الخالق في المخلوقات من القوى مناسب لتحصيل ذلك النظام الذي فيه صلاحهم فإذا استعملوها في الإفساد والإساءة كان من إتمام إقامة النظام أن يعاقبوا على تلك الإساءة والمشاهد أن المسيء كثير ما عكف على إساءته حتى الممات ، فلو لم يكن الجزاء بعد الموت حصل اختلال في نظام خلق المخلوقات وخلق القوى الصادر عنها الإحسان والإساءة ، وهذا المعنى تكرر في آيات كثيرة وكلما ذكر شيء منه أتبع بذكر الجزاء ، وقد تقدم في سورة آل عمران [١٩١] قوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) وقوله في سورة الدخان [٣٨ ـ ٤٠] (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ).
والباء في قوله : (بِالْحَقِ) للسببية أو للملابسة ، أي خلقا للسبب الحق أو ملابسا للحق لا يتخلف الحق عن حال من أحواله.
والحق : اسم جامع لما شأنه أن يحقّ ويثبت ، ومن شأن الحكمة والحكيم أن يقيمه ، ولذلك أشير بقوله : (وَخَلَقَ اللهُ) فإن اسم الجلالة جامع لصفات الكمال وتصرفات الحكمة.
وعطف (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) على (بِالْحَقِ) لأن المعطوف عليه المجرور بالياء فيه معنى التعليل ، وهذا تفصيل بعد إجمال فإن الجزاء على الفعل بما يناسبه هو من الحق ، ولأن تعليل الخلق بعلة الجزاء من تفصيل معنى الحق وآثار كون الحق سببا لخلق السماوات والأرض أو ملابسا لأحوال خلقهما ، فظهرت المناسبة بين الباء في المعطوف عليه واللام في المعطوف.
والباء في (بِما كَسَبَتْ) للتعويض. وما كسبته النفس لا تجزى به بل تجازى بمثله وما يناسبه ، فالكلام على حذف مضاف ، أي بمثل ما كسبته. وهذه المماثلة مماثلة في النوع ، وأما تقدير تلك المماثلة فذلك موكول إلى الله تعالى ومراعى فيه عظمة عالم الجزاء في الخير والشر ومقدار تمرد المسيء وامتثال المحسن ، بخلاف الحدود والزواجر فإنها مقدرة بما يناسب عالم الدنيا من الضعف. ولهذا أعقبه بقوله : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فضمير (وَهُمْ) عائد إلى (كُلُّ نَفْسٍ) ، فإن ذلك الجزاء مما اقتضاه العدل الذي جعل سببا أو ملابسا لخلق السماوات والأرض وما فيهما ، فهو عدل ، فليس من الظلم في شيء