ولا يخطر بالبال أن حكاية قولهم : (نَمُوتُ وَنَحْيا) تقتضي إرادة نحيا بعد أن نموت لأن قولهم (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) يصرف عن خطور هذا بالبال. والعطف بالواو لا يقتضي ترتيبا بين المتعاطفين في الحصول.
وإنما قدم (نَمُوتُ) في الذكر على (وَنَحْيا) في البيان مع أن المبيّن قولهم (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) فكان الظاهر أن يبدأ في البيان بذكر اللفظ المبيّن فيقال : نحيا ونموت ، فقيل قدّم (نَمُوتُ) لتتأتى الفاصلة بلفظ (نَحْيا) مع لفظ (الدُّنْيا). وعندي أن تقديم فعل (نَمُوتُ) على (نَحْيا) للاهتمام بالموت في هذا المقام لأنهم بصدد تقرير أن الموت لا حياة بعده ويتبع ذلك الاهتمام تأتي طباقين بين حياتنا الدنيا ونموت ثم بين نموت ونحيا. وحصلت الفاصلة تبعا ، وذلك أدخل في بلاغة الإعجاز ولذلك أعقبه بقوله تعالى : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) فالإشارة بذلك إلى قولهم (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) ، أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل.
وأما زيادة (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) فقصدوا تأكيد معنى انحصار الحياة والموت في هذا العالم المعبر عنه عندهم بالدهر. فالحياة بتكوين الخلقة والممات بفعل الدهر. فكيف يرجى لمن أهلكه الدهر أن يعود حيّا فالدهر هو الزمان المستمر المتعاقب ليله ونهاره.
والمعنى : أحياؤنا يصيرون إلى الموت بتأثير الزمان ، أي حدثانه من طول مدة يعقبها الموت بالشيخوخة ، أو من أسباب تفضي إلى الهلاك ، وأقوالهم في هذا كثيرة ومن الشعر القديم قول عمرو بن قميئة :
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى |
|
فما بال من يرمى وليس برام |
ولعلهم يريدون أنه لو تأثر الزمان لبقي الناس أحياء كما قال أسقف نجران :
منع البقاء تقلب الشمس |
|
وطلوعها من حيث لا تمسي |
فلما كان الموت بفعل الدهر فكيف يرجى أن يعودوا أحياء. وهذه كلمات كانت تجري على ألسنتهم لقلة التدبر في الأمور وإن كانوا يعلمون أن الله هو الخالق للعوالم ، وأما ما يجري في العالم من التصرفات فلم يكن لهم فيه رأي وكيف وحالتهم الأمية لا تساعد على ذلك ، وكانوا يخطئون في التفاصيل حتى يأتوا بما يناقض ما يعتقدونه ، ولذلك أعقبه بقوله تعالى : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) فإشارة (بِذلِكَ) إلى قولهم (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل على ذلك فإن الدليل النظري