وإن حمل الكتاب على كتب الشريعة كانت جملة (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعليلا للجملة قبلها باعتبار تقييد النطق بأنه بالحق ، أي لأن أعمالكم كانت محصاة مبيّن ما هو منها مخالف لما أمر به كتابهم.
والاستنساخ : استفعال من النسخ.
والنسخ : يطلق على كتابة ما يكتب على مثال مكتوب آخر قبله. ويسمى بالمعارضة أيضا. وظاهر الأساس أن هذا حقيقة معنى النسخ وأن قولهم : نسخت الشمس الظلّ مجاز. وكلام جمهور العلماء بخلافه كما يقوله علماء أصول الفقه في باب النسخ. وكلام الراغب يحتمل الإطلاقين ، فإذا درجت على كلام الجمهور فقد جعلت كتابة مكتوب على مثال مكتوب قبله كإزالة للمكتوب الأول لأن ذلك في الغالب يكون لقصد التعويض عن المكتوب الأول لمن ليس عنده أو لخشية ضياع الأصل. وعن ابن عباس أنه يقول : ألستم عربا وهل يكون النسخ إلا من كتاب.
وأما إطلاق النسخ على كتابة أنف ليست على مثال كتابة أخرى سبقتها فكلام الزمخشري في الأساس صريح في أنه من معاني النسخ حقيقة ، وهو ظاهر كلامه في «الكشاف» ، فيكون لفظ النسخ مشتركا في المعنيين بل ربما كان معنى مطلق الكتابة هو الأصل وكانت تسمية كتابة على مثل كتابة سابقة نسخا لأن ذلك كتابة وكلام صاحب «اللسان» وصاحب «القاموس» أن نقل الكتابة لا يسمى نسخا إلا إذا كان على مثال كتابة سابقة. وهذا اختلاف معضل ، والأظهر ما ذهب إليه صاحب «اللسان» وصاحب «القاموس» فيجوز أن يكون السين والتاء في (نَسْتَنْسِخُ) للمبالغة في الفعل مثل استجاب. ويجوز أن يكون السين والتاء للطلب والتكليف ، أي نكلف الملائكة نسخ أعمالكم ، وعلى هذا المحمل حمل المفسرون السين والتاء هنا أي للطلب ، ثم يجوز أن يكون النسخ على معنى نقل كتابة عن كتابة سابقة وبه فسر ابن عباس قال : إن الله وكل ملائكة ينسخون من أم الكتاب في رمضان كل ما سيكون من أعمال بني آدم ، ويجوز أن يكون النسخ بمعنى كتابة ما تعلمه النّاس دون نقل عن أصل.
والمعنى : إنا كنا نكتب أعمالكم. وعن علي بن أبي طالب أنه قال : إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم ومثله عن الحسن والسدّي.
والنسخ هنا : الكتابة ، وإسناد فعل الاستنتاج إلى ضمير الله على هذا إسناد مجازي لأن الله أمر الحفظة بكتابة الأعمال.