(هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً). والعمى : عدم البصر ، وهو مستعار هنا لضد الاهتداء فمقابلته بالهدى فيها محسّن الطّباق.
والإسناد إلى القرآن على هذا الوجه في معاد الضمير بأنه عليهم عمى من الإسناد المجازي لأن عنادهم في قبوله كان سببا لضلالهم فكان القرآن سبب سبب ، كقوله تعالى :(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥].
ويجوز أن يكون ضمير (وَهُوَ) ضمير شأن تنبيها على فظاعة ضلالهم. وجملة (عَلَيْهِمْ عَمًى) خبر ضمير الشأن ، أي وأعظم من الوقر أن عليهم عمى ، أي على أبصارهم عمى كقوله : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) [البقرة : ٧].
وإنما علق العمى بالكون على ذواتهم لأنه لما كان عمى مجازيا تعين أن مصيبته على أنفسهم كلها لا على أبصارهم خاصة فإن عمى البصائر أشدّ ضرا من عمى الأبصار كقوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦].
وجملة (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) خبر ثالث عن (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ). والكلام تمثيل لحال إعراضهم عن الدعوة عند سماعها بحال من ينادى من مكان بعيد لا يبلغ إليه في مثله صوت المنادي على نحو قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ) كما تقدم في سورة البقرة [١٧١]. وتقول العرب لمن لا يفهم : أنت تنادى من مكان بعيد. والإشارة ب (أُولئِكَ) إلى (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) لقصد التنبيه على أن المشار إليهم بعد تلك الأوصاف أحرياء بما سيذكر بعدها من الحكم من أجلها نظير (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].
ويتعلق (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ب (يُنادَوْنَ). وإذا كان النداء من مكان بعيد كان المنادى (بالفتح) في مكان بعيد لا محالة كما تقدم في تعلق (مِنَ الْأَرْضِ) ، بقوله : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ) [الروم : ٢٥] أي دعاكم من مكانكم في الأرض ، ويذلك يجوز أن يكون (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ظرفا مستقرا في موضع الحال من ضمير (يُنادَوْنَ) وذلك غير متأتّ في قوله : (إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ).
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥))