الإيمان بأنه حق فمن كان منهم شاكّا من قبل عن قلة تبصر حصل له العلم بعد ذلك ، ومن كان إنّما يكفر عنادا واحتفاظا بالسيادة افتضح بهتانه وسفّهه جيرانه. وكلاهما قد أفات بتأخير الإيمان خيرا عظيما من خير الآخرة بما أضاعه من تزود ثواب في مدة كفره ومن خير الدّنيا بما فاته من شرف السبق بالإيمان والهجرة كما قال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [الحديد : ١٠].
وفي هذه الآية طرف من الإعجاز بالإخبار عن الغيب إذ أخبرت بالوعد بحصول النصر له ولدينه وذلك بما يسّر الله لرسوله صلىاللهعليهوسلم ولخلفائه من بعده في آفاق الدّنيا والمشرق والمغرب عامة وفي باحة العرب خاصة من الفتوح وثباتها وانطباع الأمم بها ما لم تتيسر أمثالها لأحد من ملوك الأرض والقياصرة والأكاسرة على قلة المسلمين إن نسب عددهم إلى عدد الأمم التي فتحوا آفاقها بنشر دعوة الإسلام في أقطار الأرض ، والتّاريخ شاهد بأن ما تهيأ للمسلمين من عجائب الانتشار والسلطان على الأمم أمر خارق للعادة ، فيتبيّن أن دين الإسلام هو الحق وأن المسلمين كلما تمسّكوا بعرى الإسلام لقوا من نصر الله أمرا عجيبا يشهد بذلك السابق واللاحق ، وقد تحدّاهم الله بذلك في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [الرعد : ٤١] ثم قال (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الرعد : ٤٣].
ولم يقف ظهور الإسلام عند فتح الممالك والغلب على الملوك والجبابرة ، بل تجاوز ذلك إلى التغلغل في نفوس الأمم المختلفة فتقلّدوه دينا وانبثت آدابه وأخلاقه فيهم فأصلحت عوائدهم ونظمهم المدنيّة المختلفة التي كانوا عليها فأصبحوا على حضارة متماثلة متناسقة وأوجدوا حضارة جديدة سالمة من الرعونة وتفشت لغة القرآن فتخاطبت بها الأمم المختلفة الألسن وتعارفت بواسطتها ونبغت فيهم فطاحل من علماء الدّين وعلماء العربية وأئمّة الأدب العربي وفحول الشعراء ومشاهير الملوك الذين نشروا الإسلام في الممالك بفتوحهم.
فالمراد بالآيات في قوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) ما يشمل الدلائل الخارجة عن القرآن وما يشمل آيات القرآن فإن من جملة معنى رؤيتها رؤية ما يصدّق أخبارها ويبيّن نصحها إياهم بدعوتها إلى خير الدّنيا والآخرة.