٢ ـ ويوجد طريق آخر للإجابة على هذا السؤال نوضحه بالمثال التالي : تصوروا أنّ شخصاً محبوساً في غرفة صغيرة لا يوجد فيها سوى نافذة صغيرة على الخارج ، فعندما تمر قافلة من الإبل من أمام هذه النافذة ، فإنّ هذا السجين سوف يشاهد رأس البعير أولاً ، ثم رقبته ، ثم سنامه ، ثم أرجله ، ثم ذنبه ، وهكذا الحال بالنسبة لسائر الابل الاخرى ، فصغر النافذة هذه هو السبب في إيجاد حالات من الماضي والحاضر والمستقبل لدى الناظر السجين ، لكن المسألة تختلف تماماً بالنسبة للواقف على سطح الغرفة وينظر إلى الصحراء نظرة شاملة ، فهو يُشاهد جميع إبل القافلة في وقتٍ واحد.
ومن هنا يتضح أن إيجاد مفاهيم الماضي والحال والمستقبل ناجمة عن محدودية نظرة الإنسان ، فما هو ماضٍ بالنسبة لنا كان مستقبلاً لأقوام قد سبقونا ، وما هو مستقبل بالنسبة لنا الآن فهو ماضٍ بالنسبة لأقوامٍ ستأتي فيما بعد.
أمّا الذات الموجودة في كل مكان والتي أحاطت بالأزل والأبد ، فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبه لها لا معنى له ، فجميع حوادث الدهر ماثلة بين يديها (ولكن كل واحدة في موقعها الخاص) ، وهي محيطة علماً بجميع الحوادث وموجودات العالم ، سواءً بالماضي ، وبالحاضر ، وبالمستقبل بصورة متساوية.
ونحن نُقرّ طبعاً بأنّ تصّور هذه المسألة بالنسبة لنا نحن المحبوسين في سجن الزمان والمكان ، أمر صعب ومعقّد ، ولكنه في نفس الوقت قابل للتدقيق والمطالعة.
٣ ـ الطريق الآخر الذي استند إليه الكثير من الفلاسفة ، هو أنّ الله تعالى عالم بذاته المقدّسة ، وبما أنّ ذاته علّة جميع المخلوقات ، فإنّ العلم بالعلّة سيكون سبباً للعلم بالمعلول ، وبتعبير آخر فإنّ الله تعالى جامع لجميع الكمالات الموجودة في جميع المخلوقات بأتم صورة ، وما هو غير موجود في ذاته المقدّسة هو نقائص المخلوقات فقط.
اذن ، فعلمه تعالى بذاته هو بالحقيقة علمه بجميع المخلوقات. (وهناك فرق دقيق بين هذا الطريق والطريق الأول يتّضح من خلال التأمل).
* * *