وقد ذكر في كون القتال كرها وجوه :
منها : أنّ القتل والقتال متضمن لفناء النفوس والتعرض للآلام ، وذهاب الأموال ، ومفارقة الأهل والأحبة ، وارتفاع الأمن والرفاهية ، وغير ذلك مما أوجب كراهية النفوس له ومشقته على الناس طبعا ، وإن كان المؤمنون لا يرفضون ذلك من حيث إنّ الله تعالى أراد منهم ذلك ويشبه ذلك الدواء الذي يتناوله المريض فإنّه يرفضه بطبعه ، ولكن من حيث إنّه يريد الصحة والشفاء فإنّه يرغب إليه.
ومنها : أنّ ذلك بالنسبة إلى بعض المؤمنين دون جميعهم ، فإنّ الله تعالى مدح طائفة بالطاعة والصدق والاستقامة في الدّين ، وعاتب طائفة أخرى بالتهاون والزيغ والنفاق فنسب الكراهة إلى جميعهم باعتبار أنّ بعضهم كاره له ، وهذا جار في معاتبة الأقوام والأمم ، كما هو ظاهر من الآيات القرآنية.
ومنها : أنّ المؤمنين كانوا يكرهون القتال لأنّهم كانوا يخافون الغلبة للعدوّ الذي له من القوة والعدّة ما لم تكن للمسلمين ، فلا يتم لصلاح الإسلام والمسلمين ، فهم في الواقع يكرهون الاستعجال فيرون الأصلح فيه التأخير حتّى يتم لهم الاستعداد.
ومنها : أنّ المؤمنين تربّوا بتربية القرآن وتخلّقوا بالأخلاق الفاضلة فامتازوا بالشفقة والرحمة ، فهم يكرهون القتال لكونه خلاف ذلك والحق ما ذكرناه من أنّ القتال مع أعداء الدّين والمشركين من حيث كونه إزهاقا للروح وموجبا لتوارد الآلام والبعد عن الأوطان ، وإفناء للأموال فهو مكروه للنفوس ، ومن حيث كونه مأمورا به وموجبا لإعلاء كلمة الحق وكون مآله الراحة الأبدية وإن اقترن بالهموم والغموم الدنيوية ، فهو محبوب للمؤمنين المخلصين في إيمانهم الراغبين في نصرة الإسلام ودين الحق. فحكم هذه الآية من الأحكام العقلية الواقعية.
قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ).