الثاني : على المنة منه ـ سبحانه ـ علينا ، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء ، وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم ، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجنى ، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء ، لأنه لا يجب عليه شيء.
الثالث : على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها ، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأت فيها أوراق ليست من جنسها ، وثمر خارج من صفته : الجرم الوافر ، واللون الزاهر ، والجنى الجديد ، والطعم اللذيذ ، فأين الطبائع وأجناسها وأين الفلاسفة وأسسها ، هل هي في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان أو ترتب هذا الترتيب العجيب. كلا ، لا يتم ذلك في العقول إلا لحى قادر عالم مريد ، فسبحان من له في كل شيء آية ونهاية.
ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب. وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء ، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم» (١).
ثم ذكر ـ سبحانه ـ المقصود من خلق هذه الأشياء فقال : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) أى : كلوا من ثمر تلك الزروع والأشجار التي أنشأناها لكم ، شاكرين الله على ذلك. والأمر للإباحة. وفائدة التقييد بقوله (إِذا أَثْمَرَ) إباحة الأكل قبل النضوج والإدراك.
وقيل فائدته : الترخيص للمالك في الأكل من قبل أداء حق الله ـ تعالى ـ لأنه لما أوجب الحق فيه ربما يتبادر إلى الأذهان أنه يحرم على المالك تناول شيء منه لمكان شركة المساكين له فيه ، فأباح الله له هذا الأكل.
ثم أمرهم ـ سبحانه ـ بأداء حقوق الفقراء والمحتاجين مما رزقهم فقال : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أى : كلوا من ثمر ما أنشأنا لكم ، وأدوا حق الله فيه للفقراء والمحتاجين يوم حصاده.
ويرى بعض العلماء أن المراد بهذا الحق الصدقة بوجه عام على المستحقين لها ، بأن يوزع صاحب الزرع منه عند حصاده على المساكين والبائسين ما يسد حاجتهم بدون إسراف أو تقتير.
وأصحاب هذا الرأى فسروا هذا الحق بالصدقة الواجبة من غير تحديد للمقدار وليس بالزكاة المفروضة لأن الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة.
وهم يرون أن هذا الحق لم ينسخ بالزكاة المفروضة ، بل على صاحب الزرع أن يطعم منه المحتاجين عند حصاده.
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٩٩.