وقوله ، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بمحذوف حال من فاعل افترى ، أى : افترى عليه ـ تعالى ـ جاهلا بصدور التحريم.
وإنما وصف بعدم العلم مع أن المفترى عالم بعدم الصدور ، إيذانا بخروجه في الظلم عن الحدود والنهايات ، لأنه إذا كان المفترى بغير علم يعد ظالما فكيف بمن يفترى الكذب وهو عالم بذلك.
ثم ختمت الآية بقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أى لا يهديهم إلى طريق الحق بسبب ظلمهم ، وإيثارهم طريق الغي على طريق الرشد.
هذا ، والمتأمل في هاتين الآيتين الكريمتين يراهما قد ردتا على المشركين بأسلوب له ـ مع سهولته وتأثيره ـ الطابع المنطقي الذي يزيد المؤمنين إيمانا بصحة هذا الدين ، وصدق هذا القرآن ، ويقطع على المعارضين والملحدين كل حجة وطريق.
وتقرير ذلك ـ كما قال بعض العلماء ـ أن تطبق قاعدة (السير والتقسيم) فيقال ، إن الله ـ تعالى ـ خلق من كل صنف من المذكورات نوعين : ذكرا وأنثى ، وأنتم أيها المشركون حرمتم بعض هذه الأنعام ، فلا يخلو الأمر في هذا التحريم من :
١ ـ أن يكون تحريما معللا بعلة.
٢ ـ أو أن يكون تحريما تعبديا ملقى من الله ـ تعالى ـ.
ولا جائز أن يكون تحريما معللا ، لأن العلة إن كانت هي (الذكورة) فأنتم أبحتم بعض الذكور وحرمتم بعضا ، فلم تجعلوا الأمر في الذكورة مطردا وإن كانت العلة هي (الأنوثة) فكذلك الأمر : حيث حرمتم بعض الإناث وحللتم بعضا ، فلم تطرد العلة ، ومثل هذا يقال إذا جعلت العلة هي اشتمال الرحم من الأنثى على النوعين ، لأنها حينئذ تقتضي أن يكون الكل حراما فلما ذا أحلوا بعضه.
وهذا كله يؤخذ من قوله ـ تعالى ـ (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ).
فبطل إذن أن يكون التحريم معللا.
ولا جائز أن يكون التحريم تعبديا لا يدرى له علة ، أى : مأخوذ عن الله ، لأن الأخذ عن الله إما بشهادة توصيته بذلك وسماع حكمه به ، وقد أنكر هذا عليهم بقوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) وإما أن يكون برسول أبلغهم ذلك ، وهم لم يأتهم رسول بذلك ، وفي هذا يقول ـ جل شأنه متحديا لهم (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ).