قال الآلوسى ما ملخصه : «وهم لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح ، لأنهم لم يعتقدوا قبح أفعالهم وإنما مرادهم من هذا القول الاحتجاج على أن ما ارتكبوه ـ من الشرك والتحريم ـ حق ومشروع ومرضى عند الله ، بناء على أن المشيئة والإرادة تسابق الأمر وتستلزم الرضا ، فيكون حاصل كلامهم :
إن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئة الله وإرادته ، وكل ما تعلقت به مشيئة الله وإرادته فهو مشروع ومرضى عنده. فينتج أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم مشروع ومرضى عند الله» (١).
وقد حكى القرآن في كثير من آياته ما يشبه قولهم هذا ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (٢).
وقوله ـ تعالى ـ (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٣). وقد رد القرآن على قولهم بما يبطله فقال : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا).
أى : مثل هذا التكذيب من مشركي مكة للرسول صلىاللهعليهوسلم فيما جاء به من إبطال الشرك ، قد كذب الذين من قبلهم لرسلهم ، واستمروا في تكذيبهم لهم حتى أنزلنا على هؤلاء المكذبين عذابنا ونقمتنا.
ومن مظاهر تكذيب هؤلاء المشركين لرسلهم ، أنهم عند ما قال لهم الرسل عليهمالسلام ـ اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. كذبوهم واحتجوا عليهم بأن ما هم عليه من شرك واقع بمشيئة الله ، وزعموا أنه ما دام كذلك فهو مرضى عنده ـ سبحانه ـ فكان الرد عليهم بأنه لو كان هذا الشرك وغيره من قبائحهم مرضيا عنده ـ سبحانه ـ : لما أذاق أسلافهم المكذبين ـ الذين قالوا لرسلهم مثل قولهم ـ عذابه ونقمته. ولما أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
قال الآلوسى ما ملخصه : وحاصل هذا الرد أن كلام المشركين يتضمن تكذيب الرسل وقد دلت المعجزة على صدقهم ، ولا يخفى أن المقدمة الأولى وهي أن كل شيء بمشيئة الله : لا تكذيب فيها ، بل هي متضمنة لتصديق ما تطابق فيه العقل والشرع من كون كل شيء بمشيئة الله ، وامتناع أن يجرى في ملكه خلاف ما يشاء. فمنشأ التكذيب هو المقدمة الثانية ، وهي أن
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٥٠.
(٢) سورة النحل الآية ٣٥.
(٣) سورة الزخرف الآية ٢٠.