كل ما تعلقت به مشيئة الله وإرادته فهو مشروع ومرضى عنه ، لأن الرسل عليهمالسلام : يدعونهم إلى التوحيد ويقولون لهم : إن الله لا يرضى لعباده الكفر دينا ولا يأمر بالفحشاء ، فيكون قولهم : إن ما نرتكبه مشروع ومرضى عنده سبحانه : تكذيب لقول الرسل. وحيث كان فساد هذه الحجة باعتبار المقدمة الثانية تعين أنها ليست بصادقة ، وحينئذ يصدق نقيضها وهي أنه ليس كل ما تعلقت به المشيئة والإرادة بمشروع ومرضى عنده ـ سبحانه ـ بناء على أن الإرادة لا تساوق الأمر (١).
ثم بعد هذا الرد المفحم للمشركين أمر الله : تعالى : رسوله أن يطالبهم بدليل على مزاعمهم فقال : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا).
أى : قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتعجيز : هل عندكم من علم ثابت تعتمدون عليه في قولكم (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا)! إن كان عندكم هذا العلم فأخرجوه لنا لنتباحث معكم فيه ، ونعرضه على ما جئتكم به من آيات بينة ودلائل ساطعة. فإن العاقل هو الذي لا يتكلم بدون علم ، ولا يحيل على مشيئة الله التي لا ندري عنها شيئا.
و (مِنْ) في قوله (مِنْ عِلْمٍ) زائدة ، وعلم مبتدأ ، وعندكم خبر مقدم.
وقوله : (فَتُخْرِجُوهُ) منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية الواقعة بعد الاستفهام الإنكارى.
ثم بين حقيقة حالهم فقال : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ).
أى : أنتم لستم على شيء ما من العلم ، بل ما تتبعون في أقوالكم وأعمالكم وعقائدكم إلا الظن الباطل الذي لا يغنى من الحق شيئا. وما أنتم إلا تخرصون أى تكذبون على الله فيما ادعيتموه.
وأصل الخرص : القول بالظن. يقال : خرصت النخل خرصا ـ من باب قتل ـ حزرت ثمره وقدرته بالظن والتخمين ، واستعمل في الكذب لما يداخله من الظنون الكاذبة ، فيقال : خرص في قوله ـ كنصر ـ أى كذب.
وبعد أن نفى ـ سبحانه ـ عنهم أدنى ما يقال له علم وحصر ما هم عليه من دين في أدنى مراتب الظن مع أن أعلاها لا يغنى من الحق شيئا ، ووصمهم بالكذب فيما يدعون ، بعد كل ذلك أثبت لذاته ـ سبحانه ـ في مقابلة ذلك الحجة العليا التي لا تعلوها حجة فقال :
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٥٠.