ثم قال ـ تعالى ـ (ثُمَّ قَضى أَجَلاً ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ). الأجل في اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره. والمعنى : أنه سبحانه ـ قدر لعباده أجلين : أجلا تنتهي عنده حياتهم بعد أن عاشوا زمنا معينا ، وأجلا آخر يمتد من وقت موتهم إلى أن يبعثهم الله من قبورهم عند انتهاء عمر الدنيا ليحاسبهم على أعمالهم ، هذا هو الرأى الأول في معنى الأجلين.
وقيل : المراد من الأجل الأول آجال الماضين من الخلق ، ومن الثاني آجال الباقين منهم. وقيل المراد من الأول النوم ومن الثاني الموت. وقيل : المراد من الأول ما مضى من عمر الإنسان ومن الثاني ما بقي منه.
والذي نرجحه هو الرأى الأول لأسباب منها.
١ ـ أن من تتبع ذكر الأجل المسمى في القرآن في سياق الكلام عن الناس يراه قد ورد في عمر الإنسان الذي ينتهى بالموت ، ومن ذلك قوله تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (١).
وقوله ـ تعالى ـ : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢).
٢ ـ أن الآية الكريمة مسوقة لإثبات وحدانية الله ولتقرير أن البعث حق ، فالمناسب أن يكون المراد بالأجل الثاني هو انتهاء عمر الدنيا وبعث الناس من قبورهم.
ولذا قال أبو السعود في تضعيفه للآراء المخالفة للرأى الأول : «ومن هاهنا تبين أن ما قيل من أن الأجل الأول هو النوم والثاني هو الموت ، أو أن الأول أجل الماضين والثاني أجل الباقين ، أو أن الأول مقدار ما مضى من عمر كل أحد والثاني مقدار ما بقي منه ؛ مما لا وجه له أصلا ، لما رأيت من أن مساق النظم الكريم استبعاد امترائهم في البعث الذي عبر عن وقته بالأجل المسمى. فحيث أريد به أحد ما ذكر من الأمور الثلاثة ففي أى شيء تمترون؟» (٣).
٣ ـ أن الرأى الأول هو الرأى المأثور عن بعض الصحابة ، وبه قال جمهور المفسرين ، وقد عزاه ابن كثير في تفسيره إلى عشرة من التابعين (٤).
__________________
(١) سورة النحل : الآية ٦١.
(٢) سورة نوح الآية ٤.
(٣) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٨٠.
(٤) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٣ طبعة عيسى الحلبي.