وعطفت الجملة الكريمة بثم ، للإشارة إلى أطوار خلق الإنسان المختلفة ، فهو في أصله من سلالة من طين ، ثم يصيره الله ـ تعالى ـ نطفة ، فعلقة ، فمضغة ، فعظاما ، ثم يكونه ـ سبحانه ـ وتعالى خلقا آخر. فتبارك الله أحسن الخالقين».
ووصف الأجل الثاني بأنه (مسمى عنده) ، لأن وقت قيام الساعة من الأمور التي لا يعلمها إلا الله قال ـ تعالى ـ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١).
وجاء قوله تعالى (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) مقدما على (عنده) لأنه مبتدأ ، والذي سوغ الابتداء به مع كونه نكرة تخصصه بالوصف فقارب المعرفة لذلك ، فهو كقوله ـ تعالى ـ (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ).
ومعنى (عنده) أى : في علمه الذي لا يعلمه أحد سواه ، فهي عندية تشريف وخصوصية.
ثم ختمت الآية الكريمة بتوبيخ الشاكين في البعث والحساب فقال ـ تعالى ـ :
(ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ). الامتراء : هو التردد الذي ينتهى إلى محاجة ومجادلة وقد ينتهى إلى شك ثم إلى إنكار. مأخوذ من مرى الضرع إذا مسحه للدر ووجه المناسبة في استعماله في الشك ، أن الشك سبب لاستخراج العلم الذي هو كاللبن الخالص من بين فرث ودم.
والمعنى : ثم إنكم بعد كل هذه الأدلة الدالة على وحدانية الله ، وعلى أن يوم القيامة حق ، تشكون في ذلك ، وتجادلون المؤمنين فيما تشكون فيه «بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير».
وجاء العطف بثم لبيان التفاوت الكبير بين الحقائق الثابتة الناصعة ، وبين ما سولته لهم أنفسهم من المجادلة فيها.
قال الآلوسى : «والمراد استبعاد امترائهم في وقوع البعث وتحققه في نفسه مع مشاهدتهم في أنفسهم من الشواهد ما يقع مادة ذلك بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة على مادة غير مستعدة لشيء من ذلك ، كان أوضح اقتدارا على إقامته على مادة قد استعدت له وقارنته مدة» (٢).
وبعد أن أقام ـ سبحانه ـ الأدلة في الآيتين السابقتين على أنه هو المستحق للعبادة والحمد ، وعلى أن يوم القيامة حق ، جاءت الآية الثالثة لتصفه ـ سبحانه بأنه هو صاحب السلطان المطلق
__________________
(١) سورة الأعراف الآية ١٨٧.
(٢) تفسير روح المعاني للآلوسى ج ٧ ص ٨٨ طبعة منير الدمشقي.