والعمى مثلا فقد ألهمهم يعني ألهم المتكلّم النطق بهذا اللفظ مثلا عند إرادة هذا المعنى ، فاستعمل المتكلّم هذا اللفظ في هذا المعنى بعد إلهام الله له ذلك اللفظ له لمناسبة ذاتيّة بينه وبين المعنى اطّلع الله عليها وخفيت علينا. فباعتبار أنّ المناسبة تكوينيّة من الإنسان فليس أمرا جعليّا صرفا كما في وجوب الصلاة مثلا. وباعتبار أنّ الملهم هو الله تعالى فليس أمرا تكوينيّا صرفا كالجوع والعطش ، فهو أمر بين الحقيقي والاعتباري الجعلي ، (وبهذا الاعتبار يصحّ إسناد الوضع إلى الله تعالى كما هو مقتضى قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)(١).
وقد أيّد دعواه بأمرين :
الأوّل : أنّ المعاني غير متناهية فالوضع لها غير متناه فلا يصدر من البشر.
الثاني : أنّه لو صدر منهم لذكر الواضع ؛ لأنّه خدم البشر خدمة عظيمة ولم نر في التاريخ له أثرا مع عدم غرض في الإخفاء) (٢).
ففيه أوّلا : أنّ ما ذكرت من اعتبار المناسبة بين اللفظ والمعنى وإن كان أمرا ممكنا إلّا أنّه لا دليل على وقوعه. ودعوى لزوم الترجيح بلا مرجّح لولاه قد عرفت عدم قبحه حيث تكون المصلحة قائمة بما يشمله وغيره من أفراد تلك الحقيقة ، بل اختيار خصوص فرد من الأفراد مع فرض وفاء الجميع بالغرض ترجيح من غير مرجّح.
وثانيا : أنّ ما ذكره قدسسره من أنّه أمر بين الحقيقيّة والاعتباريّة لا نفهم معناه ؛ إذ إنّ الشيء إن كان له وجود في الخارج فحقيقي ، وإن لم يكن له وجود فاعتباري ، فجعل الوضع أمرا بين الأمرين لا نفهم له معنى ، فإن أراد أنّ كون الملهم هو الله هو الذي أدخله في الاعتباريّة باعتبار إلهامه فجميع الأفعال التي يفعلها البشر مستندة إلى إلهامه من حفر الآبار وغيرها ، بل وجميع العلوم أيضا كذلك وجميع الصناعات فهذا لا يخرجها عن كونها أمورا حقيقيّة.
__________________
(١) البقرة : ٣١.
(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.