صاروا إلى القول الثالث (١) ، فذهبوا إلى أنّ أفعال العباد مفوّضة إليهم ؛ ولذا يحسن منه الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وأنّه ليس له في أفعال العباد إرادة ولا اختيار.
ولا يخفى أنّ هذا القول وإن رفع الظلم عن الله تعالى ، إلّا أنّ هذا سلب لسلطان الله تعالى ، فإنّه لا يستطيع أن يمنع العبد عن عمل تكوينا أصلا ، فهو سلب لسلطنة الله وقدرته.
ومن هنا ذهب الإماميّة تبعا لأئمّتهم ـ المعصومين من الزلل ومن الخطأ في القول والعمل ـ إلى أنّ أفعال العباد أمر بين الجبر والتفويض. وهذا في الحقيقة والتأمّل الصادق برهان إمامتهم عليهمالسلام فإنّ الاهتداء إلى هذه النكتة الخفيّة في تلك العصور المظلمة برهان قاطع ودليل ساطع على خروجهم عن مستوى العقل البشري وبلوغهم رتبة لا يرقاها فلاسفة تلك الأعصار وحكمائها فضلا عن غيرهم ، ولا غرو ممّن هم باب مدينة علم المصطفى ومعدن العلوم والحكم وكفى.
ولنذكر مثالا للجبر المحض : كما إذا كان إنسان مصابا بالفلج الموجب لارتعاش اليد مثلا ، فارتعاش يده ليس أمرا اختياريا له وإن فرض أنّ إرادته المقارنة للارتعاش متعلّقة بذلك الارتعاش ، إلّا أنّها لا تصيّر العمل اختياريا ؛ إذ لا يستطيع أن يوقفها عن الارتعاش أصلا ، وهذا معنى خروجه عن اختياره.
ولنذكر أيضا مثالا للتفويض : وهو ما إذا فوّض الملك المستبدّ إلى شخص ولاية بلد من البلدان ، فهو يفعل فيها ما يشاء من دون علم ذلك الملك بما يصنعه ولا تعلّق إرادة منه بذلك الذي يعمله الوالي.
ولنذكر أيضا مبنى قول المفوّضة : وهو أنّ الممكن لا يحتاج إلّا إلى علّة محدثة وأنّه لا يفتقر إلى علّة مبقية ، بل بقاؤه حينئذ لا يحتاج إلى مؤثّر. ومثّلوا لذلك بالحجر
__________________
(١) راجع شرح المواقف ٨ : ١٤٦.