وبالجملة ، فمدّعانا كون هذه الأفعال صادرة بالإرادة والعزم والاختيار وليس العبد مجبورا عليها ، وهذا
لا يضرّ بكون بعض مقدّمات الطاعة أو المعصية أمرا غير اختياريّ ، بل أمر قسريّ ـ كما ذكرنا ـ وإن أمكن نادرا التخلّف كما في كثير من أولاد الصلحاء صاروا في الفسق الغير المتناهي وبالعكس ، إلّا أنّ النوع غالبا كما ذكرناه ، فإنّ الأوّل أقرب إلى الصلاح من الثاني والثاني أقرب إلى الفسق أو الفجور من الأول.
وبالجملة ، فكون الناس مختلفين لا يضرّ بمدّعانا أصلا كاختلافهم في الملكات النفسيّة من البخل والكرم والشجاعة والجبن وغيرهما.
الثانية : ما ورد من قولهم : «السعيد سعيد وهو في بطن أمّه والشقيّ شقيّ وهو في بطن أمّه» (١) والظاهر من معناها : إن قلنا بعالم الذرّ وإنّ من أطاع في عالم الذرّ أو عصى فيه فهو في هذا العالم يجري على منوال ذلك العالم ، فهو سعيد في بطن أمّه وشقي في بطنها ، لمسبوقيّته في ذلك العالم ومعرفة حاله. وإن لم نقل بذلك فهو بما أنّه عالم بعواقب العبد من أنّه سعيد فهو سعيد في بطن أمّه ، والشقيّ أيضا كذلك ، فهو مكتوب في ديوان السعداء لعلمه تعالى بنتيجة أمره ، وكذلك الشقيّ. وهذه الكتابة ليست هي العلّة في سعادته وشقاوته ، وإنّما هي بما أنّها انكشفت لمن لا يخفى عليه شيء.
وبالجملة ، فالسعادة والشقاوة ليستا من الصفات الذاتيّة لهذا المخلوق ؛ ولذا قد يتخلّفان معا كما في المجنون من أوّل بلوغه إلى آخر عمره أو الطفل المتوفّى ، فهذا لا يتّصف بكلّ منهما أصلا ، فافهم.
__________________
(١) التوحيد : ٣٥٦ ، الحديث ٣.