وقبل الخوض في بيانها لا بدّ من تقديم مقدّمة يتوقّف توضيح المرام عليها.
فنقول : إنّ قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» ذكرت في كلام الاصحاب في مقامين :
أحدهما : في المباحث الكلاميّة في ردّ الأشاعرة الذاهبين إلى أنّ العبيد مجبورون على أعمالهم. فقد استدلّ الأشاعرة على كون الإنسان مجبورا على أعماله بأنّ كلّ ما وجد في الخارج فهو واجب لتماميّة علّته ، وكلّ ما لم يوجد فعدمه واجب ووجوده ممتنع لعدم علّته ، فليس في الخارج ممكن أصلا ؛ إذ جميعها بين واجب الوجود أو ممتنع الوجود ، فأين الفعل الممكن؟
وقد أجاب المحقّق الخواجه نصير الدين الطوسي والعلّامة (١) عن هذا الدليل بالقاعدة المزبورة ، فإنّهم ذكروا أنّ هذا الوجوب والامتناع بالاختيار ؛ ضرورة أنّ من أجزاء علّة الفعل الصادر في الخارج اختيار المكلّف لوجوده أو لعدم وجوده ، وحينئذ فهذا الوجوب إنّما يتحقّق بالاختيار كما أنّ الامتناع إنّما تحقّق بعدم اختيار المكلّف له فالامتناع أيضا بالاختيار ، وهما لا ينافيان الاختيار ، يعني لا ينافيان كون الفعل صادرا باختيار المكلّف وإرادته. والقاعدة في هذا المقام خارجة عن محلّ الكلام.
المورد الثاني من الموردين اللذين ذكرت فيهما هذه القاعدة : الاصول في مبحث الضدّ ، لمناسبة ما ، فإنّهم ذكروا أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، مثلا من ألقى نفسه من شاهق فهو في حال هويّه غير قادر على حفظ نفسه ، ولكن بما أنّ مقدّمته كانت مقدّمة اختيارية فامتناع الحفظ عليه حينئذ كان بالاختيار وهو لا ينافي الاختيار. وكذا شارب السمّ ورامي السهم قبل إصابته ، كما هو واضح. وهذه القاعدة في المقام ثلاثية الأقوال.
__________________
(١) انظر شرح التجريد : ٢٨٢ و ٣٠٧ و ٣١٤.