وبالجملة ، فأخصّية المفهوم مقتضية لتقديمه على العموم لعدّ العرف له قرينة على إرادة خلاف الظاهر في العموم ، وهذا بحسب الظاهر واضح ، ومن هنا عمل المشهور بذلك في الفتاوى الفقهيّة فحكموا بتنجيس الماء إذا كان قليلا بمجرّد الملاقاة وقدّموا المفهوم لأخصيّته في موارد كثيرة في الفقه جدّا وهو من المسلّمات عندهم من غير فرق بين كون المفهوم متّصلا بما له العموم أم منفصلا عنه. غاية الأمر أنّه إن كان من قبيل المتّصل منع عن انعقاد الظهور وفي المنفصل يمنع عن حجّيته ؛ لأنّ المفهوم يتقدّم عليه بدليل حجّيته. هذا إذا كان تقدّمه عليه من جهة دليل الحجّية فيكون مخصّصا لذلك العموم ؛ لأنّ العرف يرى الخاصّ قرينة على عدم إرادة ظهور العامّ إرادة جدّية.
وأولى من هذه الصورة بالتقدّم ما إذا كان المفهوم حاكما على العموم وموجبا لخروج هذا الفرد عن كونه فردا لذلك العامّ ، كما في مفهوم آية النبأ فإنّ مفهومها بناء على ثبوت المفهوم لها يعارض عموم التعليل في ذيلها وهو قوله : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١) فإنّ خبر العادل لا يفيد اليقين ، بل إنّما يفيد الظنّ. فبمقتضى عموم الآيات المانعة عن اتّباع الظن (٢) وبمقتضى عموم التعليل في ذيل الآية لا يجوز التعويل على خبر العادل كالفاسق أيضا ، ولكنّ المفهوم على تقدير القول به يكون حاكما على هذه العمومات وموجبا لخروجه عن كونه ظنّا ، بل يكون علما تعبّديّا ، وكذا تكون الإصابة به إصابة بحجّة لا بجهالة ، فحينئذ بمقتضى حكومته خروجه موضوعا عن العمومات وعن عموم التعليل أيضا فإنّ عموم التعليل قضيّة حقيقيّة لا تحقّق لها موضوعا ، بل إنّما هي حكم على تقدير تحقّق موضوعه.
__________________
(١) الحجرات : ٦.
(٢) مثل : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ). الإسراء : ٣٦ ، ومثل : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً). يونس : ٣٦.