وأمّا الصورة الرابعة : وهي صورة تقدّم الخاصّ وتأخّر العامّ عن حضور وقت العمل بالخاصّ فهل يكون العامّ ناسخا لحكم الخاصّ ليجب إكرام العلماء جميعا حتّى زيدا من الآن أم يكون الخاصّ المتقدّم مخصّصا لحكم العامّ المتأخّر وبيانا لمقدار المراد الجدّي منه حتّى يجب إكرام ما عدا زيد من العلماء فيما يأتي؟ فالثمرة بين النسخ والتخصيص في هذا الفرض ظاهرة للعيان ، فهل يتقدّم التخصيص على النسخ؟ كما اختاره صاحب الكفاية تبعا لمشهور الاصوليّين بدعوى : أنّ أكثريّة التخصيص وندرة النسخ اقتضت تقديم التخصيص على النسخ. توضيح ذلك : أنّ «لا تكرم زيدا» له إطلاق من حيث الأزمان إلى يوم القيامة و «لا تكرم العلماء» له عموم أفرادي يشمل زيدا والجمع بين كلا هذين الظهورين مستحيل ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما ، إلّا أنّ كثرة التخصيص وندرة النسخ جعلت ظهور الخاصّ في الإطلاق الزماني أقوى من ظهور العامّ في العموم (١).
ولا يخفى ما في هذا الكلام ، فإنّ الكثرة الخارجيّة لا تودع ظهورا في الألفاظ خصوصا وظهور العموم في العموم الأفرادي وضعي ، وظهور المطلق بمقدّمات الحكمة فكيف تكون الكثرة محقّقة للظهور! نعم هي يفيد الظنّ بالتخصيص إلّا أنّه لا يغني عن الحقّ شيئا ، فالإنصاف أنّ القواعد تقتضي تقدّم النسخ.
وربما يقال : إنّ الخاصّ المتقدّم لا إطلاق فيه من حيث الأزمان ؛ لأنّ القضيّة مسوقة لبيان الحكم وتوجّهه على موضوعه واستمرار الحكم يلزم أن يكون بعد جعله ، والقضيّة إنّما تتكفّل أصل الجعل ، والقول بعدم النسخ ليس مفادا لها ، وإنّما هو قضيّة استصحاب الحكم ، ومعلوم أنّ الاستصحاب لا مجال له مع العموم اللفظي ؛ لأنّ العموم اللفظي رافع للشكّ.
__________________
(١) كفاية الاصول : ٢٧٧.