ينسبون الجهل إلى الله وهم برآء من ذلك براءة الذئب من دم يوسف عليهالسلام ولكنّها شنشنة أعرفها من أحزم. وقد ذكروا في باب الجبر في أفعال البشر الذي أصرّ عليه أبناء العامّة أنّ الله إمّا أن يعلم أنّ زيدا يشرب الخمر أو لا ، لا سبيل إلى الثاني لاستلزامه الجهل ، وإذا كان يعلم فلا بدّ من وقوعه لئلّا يتخلّف المعلوم عن العلم.
وقد ذكرنا نحن في مبحث الجبر بأنّ علم الله تعالى لا يوجب جبر البشر على فعل شيء ، بل هو نظير ارتسام الصور في المرآة معلول للوجود لا أنّه علّة لها ، فعلمه لا يوجب صدور الفعل لا عن إرادة واختيار من العبد نفسه ، بل لا بدّ من تحقّقهما في الخارج عن إرادة واختيار ؛ لأنّه تعلّق علم الله بهما كذلك ، وحينئذ فتعلّق العلم وعدمه لا يوجب صدور الفعل. بل كما أنّ وجود المرآة لا يوجب صدور الفعل المرتسم بها في الخارج ، بل هو يصدر في الخارج كانت مرآة أم لم تكن ، كذلك علم الله تعالى. وهذا العلم كما أنّه متحقّق بالنسبة إلى أعمال البشر كذلك متحقّق بالنسبة إلى أفعاله نفسه تبارك وتعالى إلّا أنّ هذا العلم أيضا لا يقتضي صدور أفعاله مقهورا عليها ، كما أنّ علم الإنسان بأنّه ينام في هذه الليلة لا يوجب أن يكون نومه قهريّا عليه بحيث يخرج عن إرادته واختياره. والظاهر أنّ هذا واضح لا غبار ولا سترة عليه لمن تأمّل.
ثمّ إنّ المعلوم هو كلّ شيء حقيقي كان الخارج ظرفا له نفسه فيشمل الملازمات أيضا ولا يختصّ بما كان الخارج ظرفا لوجوده بل يشمل الملازمات التي قد لا توجد لعدم وجود طرفيها ومثل حكمنا بإمكان وجود زيد فإن إمكانه كاستحالة اجتماع النقيضين أمر حقيقي يكون الخارج ظرفا له.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الله تعالى له علم مكنون مخزون استأثر به فلا يطلع عليه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ؛ لأنّهم مهما بلغوا من الشرف لا يحيطون به علما وأنّ شرفهم عليهمالسلام إنّما هو بالنسبة إلى المخلوقات لا بالنسبة إلى الخالق تعالى وتقدّس كيف يحيطون به وهو خالقهم ومكوّنهم ولعلّه هو المسمّى بأمّ الكتاب.