ألا ترى أنّ من قال : اشتر لي عبدا عفيفا ورعا مجتنبا عن مجالسة الأراذل ، أو عابدا مصلّيا ساعيا إلى المساجد ، وأمثال ذلك من التروك والأفعال ، لا يفهم منه عرفا إلّا المواظب الملازم لها.
وحيث إنّ المواظبة على تلك الأوصاف في المدة الكثيرة بالنيّة الخالصة ، لا بدّ وأن يكون لها مبدأ في النفس باعثة على النية واستعمال الجوارح أو كفّها ، فلا ينفكّ عن صفة حسنة ثابتة نفسانية يمنع ما دام وجودها عن التخلف عن تلك الآثار ، سواء بلغت تلك الصفة الكامنة حدّ الملكة بالمعنى المذكور في القول الأوّل أم لا.
فبين هذين القولين عموم من وجه ؛ لاختصاص الأوّل بكون تلك الملكة مما يقتدر به على ترك المعاصي وملازمة التقوى بسهولة ، ولكن لا ينافيها التخلّف أحيانا بفعل معصية دفعة أو أكثر ، فإنّ تلك الملكة مما لا يحصل إلّا بمجاهدة وتكرير ومزاولة ، وبعد حصولها لا تزول بفعل خلافها مرّة أو مرّات عديدة ، واختصاص الثاني بكون الصفة النفسانية الباعثة على التقوى بحيث لم يتخلّف عنها الأثر ، فينافيها المعصية ، كأن يكون خوفا من الله عزوجل أو طمعا في ثوابه أو إجلالا له ، فإنّها يزول عند المعصية ، وإلّا لم يتخلّف عن أثرها الذي هو ترك المعصية ، وإن عادت ثانيا ، ولكن لا ينافيها كون ترك المعصية بمشقة ومجاهدة ، حيث لم يحصل بعد التكرار للبالغ حدّا يوجب حصول الملكة وسهولة التقوى ، نظير الخوض في الأحوال والمعارك المنبعث عن غيرة أو حميّة أو حبّ شخص أو بغضه ، لا عن ملكة الشجاعة والجراءة.
فيشترك القولان في كون الآثار منبعثة عن صفة راسخة في النفس ، ويختلفان في أنّ العدالة هل هي نفس تلك الآثار المنبعثة عن الهيئة النفسانية ، فينقضها التخلّف في الآثار ، أو هي نفس الملكة الباعثة على سهولة الآثار ، فلا ينقضها