وممّا اُثر عنه عليهالسلام قوله أيضاً : «كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً ، وأجربة سغباً ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، [نصبر على بلائه] ويوفّينا أجور الصابرين. لن تشذّ عن رسول الله لحمته ...» (١).
لقد كان الحسين عليهالسلام يحدّث بهذا وأمثاله ، ويبصّر المسلمين ، ويستنهض به هممهم ، ويطلب نصرتهم ، ويذكّرهم بتكليفهم الشرعي سرّاً وعلانية في جو من الاستضعاف والخوف والإرهاب ، نظير ما عاشه جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله في مكّة يوم استضعفته قريش وعذّبت أصحابه ، فقُتل مَنْ قُتل ، وسُجن مَنْ سُجن ، وتشرّد مَنْ تشرّد.
وليس من شك أنّ هذه الحركة التبليغيّة العامّة من الحسين عليهالسلام تقوم على أساس ما أمر به النبي صلىاللهعليهوآله من تبليغ حديثه إلى الناس ، وما أمر به الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوآله من إظهار العلم عند ظهور البدع ، وقد تخيَّر لها الحسين عليهالسلام بتوفيق إلهي خاصّ ظرفها المناسب ، وهذا يعني في الوقت نفسه كما بيّنا أنّ السلطة الاُمويّة في الشام سوف لن تسكت على مثل هذه الحركة ، بل سيكون موقفها منها هو العمل على القضاء عليها ، وبكلّ وسيلة ممكنة ، وبأقسى ما يتصوّر من العقوبة ؛ لتكون نكالاً للآخرين وعبرة.
إنّ السلطة حين أرادت من الحسين عليهالسلام أن يُبايع يعني إنّها أرادت منه أن يوافق على سياستها وضلالها وإضلالها للناس ، وهذا الأمر لا يقرُّه الدين للعالم القادر على التغيير ، والحسين عليهالسلام لا ينافسه أحد ممّن هو في عصره في العلم بالشريعة والقدرة على التغيير ، وفي ضوء ذلك فليس من المترقّب من الحسين المطهّر الذي قال فيه النبي صلىاللهعليهوآله : «حسين منّي وأنا من حسين» أن يُبايع ليزيد ويقرّه على سياسة تحريف الدين ، وإضلال الأمّة حتّى لو كلّفه ذلك دمه الزكي ، بل شعاره في ذلك «لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد» (٢). وهو في ذلك نظير جدّه النبي صلىاللهعليهوآله حين قال لعمّه أبي طالب : «ياعم ، والله لو وضعوا
__________________
(١) اللهوف ـ لابن طاووس / ٣٨.
(٢) فتوح ابن أعثم ٥ / ٢٣.