جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم ، يحوزكم الطغاة الجفاة ، وأعراب أهل الشام ، وأنتم لهاميم (١) العرب ، والسنام الأعظم ، وعمّار الليل بتلاوة القرآن ، وأهل دعوة الحقّ إذ ضلّ الخاطئون. فلولا إقبالكم بعد إدباركم ، وكرّكم بعد انحيازكم ، وجب عليكم ما وجب على المولى يوم الزحف دبره وكنتم من الهالكين. ولكن هوّن وجدي وشفى بعض اُحاح نفسي أنّي رأيتكم باُخرة حزتموهم كما حازوكم ، وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم ، تحسّونهم بالسيوف ، تركب أُولاهم أُخراهم كالإبل المطردة إليهم ، فالآن فاصبروا ، نزلت عليكم السكينة ، وثبّتكم الله عزّ وجلّ باليقين ؛ ليعلم المنهزم أنّه مسخط ربّه وموبق نفسه. إنّ في الفرار موجدة الله عزّ وجلّ عليه ، والذلّ اللازم ، والعار الباقي ، واعتصار الفيء من يده ، وفساد العيش عليه. وإنّ الفار منه لا يزيد في عمره ولا يرضي ربّه ، فموت المرء محقّاً قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتأنيس لها والإقرار عليها».
تاريخ الطبري (٤ / ٣٧) قال الطبري : حدّثت عن هشام بن الكلبي ، عن أبي مخنف قال : حدّثني مالك بن أعين الجهني ، عن زيد بن وهب الجهني أنّ عمّار بن ياسر رحمهالله قال يومئذ : أين مَنْ يبتغي رضوان الله عليه ، ولا يؤوب إلى مال ولا ولد؟ فأتته عصابة من النّاس فقال : أيّها النّاس ، اقصدوا بنا نحو هؤلاء الذين يبغون دم ابن عفّان ، ويزعمون أنّه قُتل مظلوماً ، والله ما طلبتهم بدمه ولكنّ القوم ذاقوا الدنيا فاستحبّوها واستمرؤوها ، وعلموا أنّ الحقّ إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من دنياهم ، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقّون بها طاعة النّاس والولاية عليهم ، فخدعوا أتباعهم أن قالوا : إمامنا قُتل مظلوماً ؛ ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً ، وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون ، ولولا هي ما تبعهم من النّاس رجلان. اللّهمّ إن تنصرنا فطالما نصرت ، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم. ثمّ مضى ومضت تلك العصابة التي أجابته حتّى دنا من عمرو ، فقال : يا عمرو ، بعت دينك بمصر؟! تباً لك تباً! طالما بغيت في الإسلام عوجاً.
__________________
(١) لهاميم : جمع لهميم ، وهو السابق الجواد من الخيل.