يوما ، إما أن تقتلني يعني بالقلب أو أقتلك ، وخرج من الزاوية ، فما مضى إلا ستون يوما حتى انتقل إسحق ، وبقي الشيخ في الزاوية وحده وظهر قدسسره بمظهر عجيب.
وكان مهابا موقرا يشافه الوزراء والأمراء والحكام والقضاة بالمكروه فلا يقدر أحد منهم على الجواب ويتحاشون من قلبه ويخافون. وكان تارة يتكلم بكلام لا يفهم وتارة يشير إلى أمر مبهم يفهمه من يفهم ، له كشف صريح ، وسر يسري بمريض القلب والصحيح. وقع لي غير مرة قدست أسراره منه ملاحظات ظاهرة وباطنة ، وكان يحبني ولا يتخلى عني.
وكان بعد الثلاثين والمائتين خرج إلى إدلب ، ثم منها إلى الساحل ، ثم إلى الشام ومعه من أقاربه وأتباعه جماعة ، ثم عاد إلى إدلب ، فاشتد شوق أهل حلب إليه خصوصا الوجوه المشاهدين بركاته ، فتعاطوا أسباب تشريفه وأرسلوا له مرسالا خفية ليحسن له القدوم إلى حلب أو إلى أقاربه ، وكان في سرمين فأبى إلا التوجه إلى إدلب ، وقام في الحال وتوجه إليها ، فوصلها فما استقام إلا حصة يسيرة حتى تغيرت أحواله وانزوى في جهة البيت وقال لمن حضر : أصابتني رجة سماوية ، وطلب النزول إلى حلب حالا ، فحاوله الأقارب وحسنوا له الإقامة في إدلب لينظروا في حاله فلم يمكن ، وقال : اخترت أولا مقابر إدلب فلم يحصل الإذن إلا في مقابر حلب ، فأركبوه في الحال وهم معه ، فلما وصل إلى قرية بنّش بال الدم مرات وعجز عن الركوب ، وصار ينزل عن ظهر الدابة ويضطجع في الأرض ، فعل ذلك مرات إلى أن وصل إلى خانطومان فحصل له إفاقة ووصل إلى حلب كأنه نشط من عقال ، وأقام في الزاوية معه أقاربه مقدار يومين ، ثم في اليوم الثالث دخل الحمّام فخرج منها وقد عادت عليه الحال كما كانت أولا ، وصار يبصق الدم ، وكل يوم في ازدياد إلى أن أدركه الموت ووقع أجره على الله ليلا في أوائل شوال سنة ١٢٣٢ ألف ومائتين واثنتين وثلاثين ولم يصل إلى عشر الستين في السن.
وكان لهذا الأستاذ إسماعيل ولد اسمه علي ، وكان لا يألفه ولا يؤويه ، ولكن لا عن بغض لكون هذه الطائفة المباركة عادتهم إيواء البعداء وطرد القرباء لحكمة إلهية. ثم إن الشيخ إسماعيل طرد ابنه عليا هذا بالقلب بعد أن تزوج وولد له ، فأقام في سرمين عند شقيقته وبني عمه إلى أن توفي وجاء خبر موته إلى حلب سنة ... (١) وكنا ذلك اليوم
__________________
(١) لم يذكر سنة وفاته ، وقدسي أفندي توفي سنة ١٢٢٢ فتكون وفاته حول ذلك ولعلها سنة ١٢٢١ ، وما ذكر في كتاب «بهجة الحضرتين» سنة ١٢٧١ غلط أو سهو من الطبع.